الجمعة 22 نوفمبر 2024 05:22 مـ 20 جمادى أول 1446هـ

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

آراء وكتاب

تنافر

إيمان الشافعى

لم يكن ينوي الذهاب، فدس الدعوة المرسلة إليه ووروده الذابلة في مكان لا تطاله عيناه، سولت له نفسه مراراً التخلص منهما لكنه لم يستطع، فأذعن إلى رغبته التي تولدت إليه في اللحظة الأخيرة بأن وداعه لها ربما أعانه على إحالتها لسلسلة أوجاعه و إحباطاته في الذاكرة، التي تبدو كما لو كان بينها وبين آلامه ثمة تواطؤ غير معلن على أن تتداعى عليه لتزيد من يأسه، بعدما قضى رغبته هرول مسرعاً فاراً من المكان، حتى أن كل من رءاه ليلتها ممن كانت تربطه بهم علاقة وثيقة أجزم بأن به مسا من جنون.

ضرب في الطريق المظلم.. حتى الساعات الأولى من الفجر، المصابيح تلفظ أنفاسها الأخيرة, فزادت من وحشته, أقبل المترو، صعد في تراخ، أدارعينيه بين الركاب الذين يروحون ويجيئون، مجرد خيالات تتحرك.. لا وجود لها في مجال رؤياه أو إدراكه، لكن ما الذي أيقظهم في هذا الوقت المبكر؟، وجاء بهم إلى هنا؟!، يشعر برباط ما يصل بينهم ويضفي بظلاله بصمة على ملامحهم، لا يكاد يخطئها من يراها.

تزاحمت الأفكار في ذهنه في تواتر وسرعه كطنين نحل كاد أن يسحق عقله، صورة حبيبته وهي ترتدي خاتم زواجها.. تحاصر خياله في إصرار، تدمي قلبه، نأى النوم عنه وأمعن في الهجر, فما كان يجود بوصال المحرومين المكبلين بالأحزان، لكنه في حاجة ملحة لإجازة من وعيه وإدراكه ولو بغفوة قصيرة، فأخذ يحايله حتى أجبره وطوقه ملاك النوم بجناحيه، فراح في سبات.

قام فزعاً, حينما شعر بسكاكين تمزق جوفه, ووهن يدب في أوصاله، والجوع يمزق أحشاءه, فظن أنه نام طويلاً, ربما ليلة أو أثنتين… لكن كم الساعة الآن؟ لماذا لم توقظه أمه ليأكل ويذهب لعمله؟ !!

نهض من فراشه, فلم يجد حوله ساعة تشير للوقت, لا ثمة وجود لبشر, يصرخ، يسمع صدى صوته، أين هو إذن؟، أقامت القيامة؟! أهو في النار؟!.. لكن لو كان في النار.. كيف يشعر بكل هذه البرودة تفتت جسده وتسري في أوصاله قشعريرة؟‍!‍‍‍ يستجدي ذهنه.. لا مجيـب لأسئلتـه.

يفتح النافذة.. الدنيا كلها أحيلت لبحر من الدم, فيه كتلة سوداء،وعدة قطع متناثرة بيضاء, وكتل رمادية, وشيخُ كهل متضرم وجهه يئس وهو يحاول جاهداً، لملمة القطع البيضاء المتنافرة، الغارقة في الدم.

نزل الشاب مهرولاً للشيخ.. قد ضاع لسانه ,وأرهفت منه حواسه, ترددت كلماته مدوية لتشق صدره اللاهث بنبضات قلبه المسرعة دون أن يرتطم الصوت بحنجرته، فلم يخرج مسموعاً، يستجدي صوته.. تخرج الكلمات متعثرة من ثغرة، أين نحن؟، في أي عام؟، وما هذا الدم؟ !

ـ الشيخ في هدوء.. زاد من ثورته وشد حنقه: نحن يا ولدي في هذا العالم بلا مسميات، لا يهم في أي بلد نحن, ولا في أي عام , الكون كله ُأحيل لبحر من الدم.

ـ كما ترى هذه الكتلة السوداء.. هي المسيطرة على مجرى البحر , لذا هي طافية فوقه.

ـ الكتل الرمادية.. هي القوى البعيدة عن هذا الصراع , فلا تتخذ منه موقفاً إلا كما تهيء لها مصالحها.

ـ أما القطع البيضاء المتناثرة.. الغارقة منها والسابحة، فكما ترى أخذت ألملمها لأنقذها من هذا البحر, ولم أستطع.. حتى وهي في بحر الدم تنافرت, فغرق بعضها, ومازال البعض الآخر يسبح، ومن يدري ربما وجدوا طوق نجاة !

تتجمع الكتل السوداء لتشكل قطعة واحدة كبيرة تطفو فوق السطح.. فتسحق بدورها القطع البيضاء وتؤدي إلى تنافرها، تحاول القطع البيضاء الفرار من مصيرها المحتوم، بينما تطفو فوق جثث الغارقين في البحر.. تثقل أجسادهم لتشحذهم في القاع أعمق، وتعتلي القطع البيضاء الغارقة كمعبر إلى الكتلة السوداء لتهرع إليها وتحتمي بها .

ـ يقف الشيخ على شاطيء البحر يحاول أن يلملم القطع البيضاء

:هذه القطع الغبية الأنانية، تريد أن تنجو كلاً منها على حده..

ــ ألا تعي أنه لا نجاة لقطعة من دون مثيلاتها؟! ألم يحن الوقت بعد لتدرك أسباب تنافرها؟ لتكون كتلة واحدة، علها تطفو فوق سطح البحر، فكلها هدف للكتلة السوداء.. الكتل الغارقة منها والسابحة.

تلف وجهه غلالة الحزن

ـ كلها هدف مؤجل آت.

يرفع حاجبيه في دهشة

ـ ومن هؤلاء السابحون في بحر الدم؟

ـ هم الناجون من الموت, افترقوا.. فمنهم من يسبح ليجد مرفأ آمناً في السواد، وآخرون يلملمون القطع البيضاء.. لتطفو على السطح فتنقذهم وهيهــات..........

يشمل المكان بنظرة زائغة

ـ من هؤلاء الصارخون في قاع البحر؟

ـ يقف على الشاطيء، يمد يديه للقطع الرمادية الطافية على سطح الماء

ـ إنهم المحبون.. الذين قتل أحلامهم هذا الصراع بين الأبيض والأسود.

ــ لماذا أراك يا شيخ تتجه نحو الكتل الرمادية؟!, ثم تعود, ثم تحاول ثانية؟!

ـ إنني يا ولدي أهيب بقوة هذه الكتل, لتحقن الدماء ولو قليلاً, لكن لا جدوى، ومن يعي، وكلٌ يسعى لجمع المال ولو كان ملطخاً بالدم.

ـ تتقاذفه الأسئلة تطحن كالمتاريس عقله : إذن أين أبواه وأخوته من هذا البحر؟!

ـ اهتم بنفسك, لا مجال للبحث عنهم في حمى الدم , أشرب معي لتعيش.. فنحن نشرب الدم كؤوساً مذاباً مع الذل من قديم الأزل.

ـ اختر لنفسك موقعاً يا بنــي…

يبتلع ماء رئته فيحمر وجهه وتتلون الأشياء حوله بلون رمادي، مد بصره في أرجاء المكان، نزل إلى البحر، يحاول تجميع القطع البيضاء.. دون جدوى , الكتلة السوداء تنمو وتستفحل، دثره اليأس، وبات بين أمرين.. إما أن يشرب الدم مع الشيخ ليعيش, ومن أدراه ربما شرب دم أحد من أقاربه ويظل على أمل أن تتجمع القطع المتنافرة.. أو يسبح للكتلة السوداء لينجو بنفسه، ظل فريسة لأفكاره تتجاذبه، حتــى قرر أن……

مقالات القطع المتنافرة ايمان الشافعى