الشر السائل
عبد الحليم محمود
"الشر السائل "عنوان كتاب للمفكر البولندي "زيجمونت باومان"، وهو صاحب سلسلة السيولة والتي ترجم عنها المبدع حجاج أبو جبر خمسة كتب: الحداثة السائلة ، الحياة السائلة ، الحب السائل ، الأزمنة السائلة ، الخوف السائل ،وأكثر ما أعجبني في أعمال "باومان" حواراته حول الشر في صورته الحديثة التي تتمثل في العولمة وأخواتها حيث يقول بومان : "الشر لا يمكن تخيله في ثنائيات صلبة متعارضة مثل النور والظلام ، أو الجمال والقبح بل تحول الشر الحالي إلى شر سيّال لا تدركه الأبصار ، بل ويتوارى عن الأنظار وله قدرة رهيبة على ارتداء أقنعة فعالة وعلى حشد الهواجس والرغبات الإنسانية في خدمته تحت دعاوي زائفة ولكنها دعاوي يصعب للغاية إثبات زيفها ، وما أكثر المتطوعين لخدمته !"
هذه المقاربة عالجها المخرج عادل الأعصر في فيلم "اختفاء جعفر المصري" المأخوذ من مسرحية "قارب بلا صياد" للكاتب الإسباني "اليخاندرو كاسونا"، جسد فيه الفنان حسين فهمي دور الشيطان الذي يرتدي بدلة حديثة " سنيه " ليتماشى مع العصر، وفي حوار له مع جعفر سأله الأخير :إنت إبليس؟ رد الشيطان : إبليس ده اسم الشهرة أنا ليا أسامى كتيرة !
استطاع الأعصر أن يوظف الأغواء كقوة ناعمة بدلا من الإكراه وهو ما فعلته الليبرالية الجديدة، والتي جعلت من الاقتصاد دينا جديدا يصوغ للناس سبل العيش ومنهج حياة له سلطة على القلوب والعقول في ظل التنافس على الثروة والقوة بين الشركات متعددة الجنسيات أو العابرة للقارات،
النظام العالمي الجديد المرتدي لأكثر من قناع ينادي بالديمقراطية وحقوق الإنسان، لكنه قد غيب الدين والتاريخ وكشف عن اغتراب شديد وإحساس عميق بالظلم للفقراء في هذا العالم.
الواضح أن بايدن كسلفه أوباما يريد العودة إلى هذه المفاهيم مرة أخرى، بينما ترامب اتخذ نهج مخالف فلم يشغله أن تكون أمريكا مثالا أخلاقيا للعالم ، لكنه فضل الانعزال رافعا شعار " لا تحالفات ، لا علاقة لأمريكا بالعالم الخارجي ، وهو بذلك قد اعتنق أفكار أندرو جاكسون الرئيس السابع للولايات المتحدة الأمريكية ، مما جعل السياسيين يصفون ترامب بجاكسون الثاني.
كشفت كورونا عن فشل العولمة؛ فالعالم الان مهيئ للبحث عن نظام عالمي بديل، نظام يحقق مصلحة الجميع ، ويساوى بين البشر .
في تقرير صادر عن منظمة أوكسفام " Oxfam" أو الاتحاد الدولي للمنظمات الخيرية ورد به أن ستة وعشرين شخصا في العالم يملكون ما يعادل ثروة نصف سكان العالم ، هذا ما دفع الشركات متعددة الجنسيات إلى البحث عن معادلة لتحقيق التوازن في التركيبة الاجتماعية والاقتصادية لا من أجل المساواة بين البشر ولكن خشية الكساد أو التأثير على زيادة الاستهلاك وهو ما يؤثر على أرباح تلك الشركات.
كان من الممكن أن يرحب العالم بالاقتصاد الإسلامي كنموذج بديل، المبني على قواعد الإسلام الوسطية الرشيدة لكن العالم العربي والإسلامي لم يتخل بعد عن الشعارات التي لم يجد فيها العالم ما يغريه للإقبال عليه . [email protected]