الجمعة 22 نوفمبر 2024 07:45 مـ 20 جمادى أول 1446هـ

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

آراء وكتاب

دكتور شحاتة غريب

قراءة في وثيقة الإخوة الإنسانية

د . شحاتة غريب

 

عقد في الرابع من فبراير ٢٠١٩ وفي مثل هذا اليوم، لقاء تاريخي حمل شعار سيادة الإنسانية، جمع بين فضيلة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف والبابا فرانسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية، حيث تم إعلان " وثيقة الأخوة الإنسانية " في دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة، وتم فيما بعد في عام ٢٠٢٠ إقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة اعتبار هذا اليوم يوما عالميا للأخوة الإنسانية، ولعل إعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا اليوم، بناء على طلب مصر والإمارات والسعودية والبحرين، يشكل ردا قاسيا على كل الإدعاءات الكاذبة المتعلقة بحالة حقوق الإنسان في مصر، التي يرددها بسوء نية البرلمان الأوروبي، والكونجرس الأمريكي، تنفيذا لأجندات تآمرية باتت معروفة للجميع!

وجاءت وثيقة الأخوة الإنسانية كترجمة صادقة لنوايا حسنة من أطرافها، لتحقيق أهداف نبيلة، وتعزيز مجموعة من القيم السامية، ونشر المبادئ الأخلاقية، لإنقاذ الإنسانية من كوارث قد تحدث نتيجة ضياع الضمير الإنساني، وغياب إعلاء القيم الدينية الداعية للمحبة والتسامح وقبول الآخر، وترك تفسير الدين لمجموعة من الجاهلين الكارهين للإنسان في حد ذاته، لمجرد اختلافه معهم في الرأي، حتى ولو كان يدين نفس ديانتهم، لأن معنى الدين عندهم يتوقف عند رؤيتهم هم فقط، والتي لا تمت للقيم الدينية العظيمة بأي صلة!

لقد جاءت الوثيقة تحقيقا لحلم عاشه طويلا كثيرون ممن يعشقوا الإنسانية المجردة عن أي شكل من أشكال العنصرية والتمييز، وتوسم هؤلاء في المسجد والكنيسة تبني حلمهم، وتوحيد الرؤى، وحشد العقول المستنيرة، لوضع أسس للتعايش المشترك، والسلام العالمي، وإلغاء مصطلح "الأقليات" الذي ملأ كتب القانون والسياسة، ليحل محله مصطلح الإنسانية، وأنه لا مكان على وجه الأرض لمن يقسم الشعوب إلى أقليات معينة، أيا كان السبب، وأن الأرض ملك للإنسان أيا كان، فالسمو والعلو للقيم الإنسانية، وليس لأي شيء آخر!

ولقد أبدع أطراف الوثيقة، عندما أكدوا براءة الأديان من دعاة الإرهاب، ومخربي الأوطان، وأن رفعهم رايات دين معين، لا تعبر عن قبول أي دين للأفعال العدوانية، والجرائم ضد الإنسانية التي يقومون بها، وأن تسترهم خلف عباءة الدين يهدف إلى استقطاب النفوس الضعيفة، بحجة الدفاع عن ثوابت هذا الدين، وهم في الحقيقة مجموعة من المرتزقة، ينفذون أجندات عدائية ضد الإنسانية مقابل الأموال، فلقد باعوا إنسانيتهم ليغتالوا معناها بإسم الدين كذبا وتضليلا!

وتجدر الإشارة إلى زمن بعيد، ووفقا للنظريات التيوقراطية التي تعني استغلال الدين في السياسة والحكم، كان الحكام يروجون لنظريات الحكم الإلهي، بحيث لا يكون أمام المحكومين إلا السمع، والطاعة، والخنوع، وعدم النقاش أو الحوار، وعليهم التسليم بكل ما يقوله الحكام، باعتبارهم ممثلين الإله في الأرض، وهو ما تنفذه في الوقت الراهن بعض الحركات والجماعات الدينية!

وقد جاءت وثيقة الأخوة الإنسانية لتدحض كل ذلك، وتبين للعالم أجمع أن استغلال الدين في السياسة لتحقيق مصالح فئة معينة، لا يمت لأي دين بأي صلة، وأن الحل يكمن في الإعتراف بالإنسانية، وإعلاء قيمها، وليس في استغلال الدين، واعتباره وسيلة لتحقيق غايات غير مشروعة، أو منتهكة لحقوق الإنسان!

وجدير بالذكر أن حقوق المرأة لم تغيب أيضا عن وثيقة الأخوة الإنسانية، بل أكدت على ضرورة تحرير المرأة من كافة الضغوط التاريخية والاجتماعية التي تنال من حقوقها، والإعتراف لها بكامل الحقوق السياسية وغيرها، وأن يعمل الجميع على مواجهة كل من يقلل من شأن النساء أو انتهاك كرامتهن، وأن حقوق المرأة من الثوابت التي لا يمكن الاقتراب منها، لنقصها أو التقليل من شأنها، والتأكيد على كون المرأة شريك أساسي في صناعة مستقبل الشعوب، وإدارة كافة الملفات التي تتعلق بتقدم الأمم أو نهضتها..

وبعد عرض بعض القيم الإنسانية التي جاءت بها وثيقة الأخوة الإنسانية، يأتي السؤال الأهم: ماذا بعد؟!

وقد يبدو للوهلة الأولى الاعتقاد بسهولة هذا التساؤل، لكن في الحقيقة نجد الأمر في غاية الصعوبة، حيث الصراع الداخلي بين الإيمان بمضمون هذه الوثيقة وتنفيذه على أرض الواقع، وبين التعامل معها بلا مبالاه، واعتبارها حبر على ورق، كغيرها من دساتير وصكوك ومواثيق دولية عديدة، نصت على المساواة والمواطنة، وتقديس الحريات، ونبذ التطرف والإرهاب، وإعلاء القيم الإنسانية!

ولا ريب أن هذا الصراع لم يأتي من فراغ، بل جاء نتيجة تخاذل مستمر من المجتمع الدولي، ومؤسساته، ومنظماته، وعلى رأسها الأمم المتحدة، تجاه العديد من الجرائم التي ترتكب يوميا ضد الإنسانية، وضد البناء والعمران، فها هي الدول العظمى تتعامل مع الشعوب وكأنها عبء على الحياة، ويجب التخلص منه، فتارة يتدخلون في شئون الدول، لبث الفرقة ونشر الفتن والطائفية، وتارة أخرى يلتزمون الصمت تجاه الدول الممولة للإرهاب، وللجماعات المتطرفة، والميليشيات، التي تنتهك يوميا كل القيم الإنسانية، وتغتال أحلام الأطفال البريئة في العيش الهادئ، والآمن، والمستقر!

فهل ما حدث في العراق كان بحثا بالفعل عن أسلحة الدمار الشامل حماية للإنسانية؟!
أم أنها خطة محكمة ومدروسة للقضاء على الإنسانية؟!

فطوال سنوات عديدة لم نسمع في العراق عن مسلم ومسيحي، أو سنة أو شيعة، أو زيديين، وغيرهم من الطوائف، التي لم نسمع عنها إلا في إعلام ال سي إن إن، والجزيرة، وغيره من الإعلام الممول والموجه، لترويج الشائعات، والأكاذيب والفتن، لتقسيم العراق، مما أدى إلى سيطرة الطائفية بكل أركانها على الأرض، وباتت الإنسانية في خطر محدق، وعاش الشيطان على الأرض، ولا مكان للإنسان!

وغير ذلك من الأمثلة، في كل قارات العالم، بسبب تغييب الضمير الإنساني، وإعلاء الحقد والكراهية، واستغلال الدين في إزهاق الأرواح، والتمثيل بالموتى، واستغلال الأطفال في الحروب، والدعارة، لتبقى الكراهية عنوان الحاضر الأليم!

فلا بد أولا من القضاء على هذا الصراع الكامن بداخلنا، وأن تكون نهاية هذا الصراع لصالح الإيمان الصادق بمضمون وثيقة الأخوة الإنسانية، وتنفيذه على أرض الواقع، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بتحمل الدول كلها بصفة عامة، والدول العظمى بصفة خاصة، المسئولية تجاه الأوطان، والشعوب، وأن يكون العدل هو السائد، وأن تتحمل أيضا المؤسسات، والمنظمات الدولية المسئولية، وأن تنفذ أدوارها بعيدا عن هيمنة دولة معينة، وأن تسعى لتحقيق مصالح الشعوب وليس تحقيق مصالح دولة محددة على حساب هذه الشعوب!

من هنا قد نشعر بالعدل والإنصاف، وهذا الشعور قد يدفعنا إلى تنفيذ الوثيقة على أرض الواقع، وإن كنت لا أثق في نوايا بعض الدول، أو بعض الأشخاص، وليس ذلك بيأس مني أو عدم تفاؤل، بل لأنني فقدت الثقة في إدارات كثيرة لم ترى أمامها قيمة الإنسان، وقيمة التعايش، والسلام العالمي، ورأت نفسها فقط، وكأن دائرة الإنسانية لا تشمل غيرهم، وكأن الحياة خلقت لهم فقط، والموت خلق لغيرهم!

وهذه الثقة غير الثابتة في نوايا بعض الدول أو بعض الأشخاص، لا ينبغي أن تقودنا إلى الاستسلام وقبول الأمر الواقع، بل تدعونا إلى بذل المزيد من الجهد، والكفاح، والعمل الدؤوب، بهدف عودة الضمير الإنساني بعد غياب طويل، وأن نعترف بالآخر، وأن نكون يدا واحدة لإعلاء القيم الإنسانية..

فتنفيذ ما جاء في وثيقة الأخوة الإنسانية ليس مسئولية دولة بعينها، أو منظمة بعينها، أو شخص بعينه، بل مسئوليتنا جميعا، ولعل التاريخ يؤكد لنا أن تقرير المصير لم يكن سهلا، بل ضحت شعوب عديدة من أجله، حتى نالت الاستقلال، فهل نضحي أيضا من أجل إخلاء سبيل الإنسانية من سجون الكارهين والحاقدين؟!
وهل آن الأوان لتقرير مصير الإنسانية؟!

دكتور شحاتة غريب
نائب رئيس جامعة أسيوط

وثيقة الإخوة الإنسانية. بابا الفاتيكان. شيخ الأزهر