المهنة والدراسة بين الماضي والحاضر
د . زينب المنسي
تعاني بلدنا الحبيبة مصر منذ وقت غير قليل من مشكلة البطالة وفي رأيي أن مشكلة البطالة السبب الرئيسي فيها ليس عدم وجود فرص عمل ولكن السبب الرئيسي حقيقة يتفرع إلي سببين الأول منهما هو أن كثير من الأسر ربطت بين الدراسة الجامعية الأكاديمية وفرص العمل وكأن دارس التاريخ يجب أن يعمل في هذا المجال أو أن لا يعمل وكذلك دارس الاثنربولوجي والفلسفة والجغرافيا وغيرها من التخصصات الإنسانية
السبب الثاني وهو أن الكثير من المواطنين ينظر إلي الدولة وحكوماتها المتعاقبة علي أنها المسئولة عن فرصة العمل
حقيقة أن التاريخ علي طوله لم يعرف أي التزام من الحكومات المتعاقبة علي مستوي كافة دول العالم بتعيين المواطنين أو الالتزام بتشغيلهم فكل الدول عبر التاريخ كانت تعين من تحتاج اليه وفق خبراته أو حاجاتها اليه ويتم الاستغناء عنه اذا أخل في وظيفته ولذلك فلا عجب أن نري كل أهل الحضارات السابقة منتسبين إلي حرفة أو مهنة حتي انبياء الله تعالي كانوا من أصحاب الحرف والمهن فنذكر ان نبي الله نوح كان نجارا وداود كان حداد والنبي محمد(صلي الله عليه وسلم ) كان راعيا للأغنام وتاجرا.
ألم يكن الله بقادراً علي رزقهم بما يغنيهم بلي ولكنها حكمة الله التي أراد أن يرسلها إلي عباده علي مر العصور وهو أن العمل وكسب الرزق لا علاقة له بالعلم والشهادة والدراسة فهل هناك شهادة أو علم أعلي من النبوة والرسالة السماوية ومع ذلك استمر الأنبياء أصحاب الرسالات في العمل بمهنهم اليدوية والبسيطة فعن الرسول (صلي الله عليه وسلم ) قال ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يديه " والمقصود هنا ليس الطبخ واعداد الطعام ولكن المقصود العمل اليدوي الذي يعود علي صاحبه بالرزق ان الحرفة تعف صاحبها وتغنيه عن السؤال فقد
سأل معاوية عمرو بن العاص عن المروءة فرد قائلا " المروءة هي العفة والحرفة " ومعناها غير عفاف النفس احتراف مهنة تغني صاحبها .
ولونظرنا لنهضة اليابان والصين لو وجدناهم اعتمدوا في الأساس على المهن البسيطة واليدوية وتحولت منازلهم الى مصانع وورش صغيرة
وفي حضارتنا الإسلامية لم يكن طلب العلم ليمنع طالبه من أن يكون عطاراً أو طبيباً أو مزارعاً فلم يكن للعلم منتهي وظل طالب العلم يبحث في علمه ويمتهن مهنته ويرحل إلي أي مكان مطمئناً بحثاً عن العلم آمناً مطمئناً على عيشه فلم يحتاج بعثة دراسية أو منحة تفرغ وإنما اعتمد علي مهنته وحرفته في أي مكان يذهب اليه يعمل ويجد ويتعلم وكان من كثرة العلماء الذين امتهنوا مختلف المهن والحرف أن صنف السمعاني كتاباً أسماه (الصناع من الفقهاء والمحدثين ) وفي وقتنا المعاصر أصدر الدكتور محمد بن عبدالله التميمي كتابا بعنوان مهن الفقهاء في صدر الإسلام وأثرها علي الفقه والفقهاء ولاننسي كتاب (الطرفة فيمن نسب من العلماء إلي مهنة أو حرفة ) لمؤلفه عبدالباسط يوسف الغريب ومن أهم المهن التي امتهنها العلماء العطارة نسبة إلي بيع العطور والبقلاني نسبة إلي البقالة والتوحيدي نسبة إلي التوحيد وهو نوع من التمور والجصاص نسبة إلي مهنة الجص والخراز والخباز والصبان والصواف والزيات وكذلك الآجري الذي عمل في صناعة طوب الآجر والأنماطي وهو مهنة بائع الفرش وأشهر من تلقب بهذا اللقب عثمان بن سعيد الأنماطي قاضي الشافعية المعروف بالعراق وكذلك البحراني نسبة لمهنة ركوب البحر والحداد نسبة لمهنة الحدادة .
وللفقهاء مهن اشتهروا بها فها هو أحمد بن حنبل كان يعمل بنسج الأقمشة وكان يعمل بالنسخ أحيانا أخري أما أبوحنيفة فقد عمل بمهنة التجارة وهي نفس التي امتهنها الليث بن سعد فقيه مصر .
ونخلص من ذلك أنه لا علاقة بين التعليم والشهادات واكتساب الرزق والعيش فتلك نقرة وتلك نقرة أخري وإلا كان الأنبياء والرسل توقفوا عن مهنهم البسيطة بحجة أنهم أصبحوا انبياء وكان امتنع علمائنا عن مهنهم وتكسبوا من علمهم فما علاقة الفقه والحديث والتاريخ بتجارة العسل فلنا بالليث فقيه مصرعظة وعبرة وحتي الجبرتي مؤرخ مصر الحديثة وصاحب المؤلفات المشهورة لم يكن سوي تاجراً وفي وقتنا المعاصر أيضا نذكر الدكتور نبيل لوقا بباوي صاحب الدراسات المعروفة والمشهورة في مجال التاريخ والاجتماع فكان ضابط شرطة لفترة قصيرة واتجه لمجال الأعمال الحرة وكذلك المثقف المعروف صاحب الصالونالثقافى الأشهر في مصر الدكتور حسن راتب فهو رجل أعمال وصاحب مشاريع استثمارية عديدة .
في نهاية الأمر لو أن كل شاب في مصر فصل بين العلم والعمل لكانت نسب النجاح بين الشباب أعلي بكثير مما نري ولكان المتخصصين أكثر تخصصاً في مجالاتهم ولكن هناك مشكلة جديدة ظهرت في أيامنا تلك نتعرض لها في مقال قادم فتتطرق هذه المشكلة إلي قضية الوجاهة الاجتماعية وعلاقتها بالعلم فبعد أن كان البعض يلتحق بالجامعة لأجل الحصول علي درجة جامعية كشكل من أشكال الوجاهة الاجتماعية أصبح الآن البعض يكمل دراساته العليا ويحصل علي الماجستير والدكتوراة لأجل الوجاهة الاجتماعية وافتقدنا لفكرة الباحث الدؤوب وفقد اللقب العلمي الكثير من قيمته قد تكون تلك النوعيات لاتسبب مشاكل علي المستوي المهني ولكنها تزاحم الآخرين في أماكنهم سواء في مقاعد الليسانس أو الدراسات العليا .