وداعا..صاحب «الباطنية»و«الاقمر»و«حمام الملاطيلى»:
إسماعيل ولى الدين صاحب ”الباطنية”.. يرحل في صمت
غاص فى نسيج العوالم السفلية لمجتمعنا المصري، وسبح فى القاع متعمقا حتى الجذور ليستكشف تلك الوجوه المغمورة التى ران عليها تراب التهميش والتجاهل والنسيان فأضحت عنوانا على البؤس ورمزا للشقاء، وقد استطاع قلم الأديب الكبير الراحل إسماعيل ولى الدين-الذى غادر عالمنا فى هدوء فجر ثانى أيام العيد.
أن يسلط على هذه الوجوه التعيسة من سكان القاع ضوءا ساطعا نفض عن ملامحهم غبار التجاهل،وقد أخرجهم عبر قصصه ورواياته القصيرة من شرنقات الإهمال إلى رحابة الاحتفاء بقدراتهم المطمورة وإمكاناتهم الدفينة،ومشاعرهم المرهفة الغائرة فى مجاهل الصدور التى تئن تحت أثقال الاحتقار ووطأة الإذلال وأوجاع الإزدراء.
وقد برع ولى الدين فى التقاط تلك النماذج المهمشة والوجوه الدفينة فى ظلمات القاع، فنسج لنا عالماً حيا يموج بألوان طبيعية من المشاعر والأحاسيس والأحلام والإخفاقات، ما كان لنا أن نقترب منها يوما إلا من خلال هذا العالم الذى غزله قلمه الغواص عبر أعماله بالغة الحيوية والثراء:«الباطنية»،و«السلخانة»،و«الأقمر»،و«حمص أخضر»،و«حمام الملاطيلي»،و«أبناء وقتلة»،و«حارة برجوان»،و«أسوار المدابغ»،و«درب الهوى»،و«الشارع الأزرق»،و«رحلة الشقاء والحب»،و«درب الرهبة»،و«جحيم نصف الليل»،و«منزل العائلة المسمومة» «بيت القاضى» «حى تحت الحراسة» «دار التفاح» «القاتل والمقتول» «قتل وسط النهار».
اقرأ أيضاً
وقد عاش ولى الدين فى الأضواء الساطعة باعتباره الأديب الذي تفضله السينما، ويقبل على قصصه المنتجون الذين رءوا فيها خامة براقة لأفلام جذابة، وأتاح له ذلك عقد صداقات مع أشهر نجوم ونجمات الشاشة فى تلك الفترة، مثل فاتن حمامة التي علمته فن كتابة السيناريو، يوسف شعبان ونبيلة عبيد وليلى مراد.. النجمة التى شغف بها حبا، وصار يتتبع مسيرتها وجولاتها حتى تعرف عليها، وقدم إليها مخطوط كتابه عن قصة حياتها والذي حمل عنوان «حياة مكشوفة»، وقد أعجبت ليلى مراد بالكتاب وأذنت لمؤلفه بنشره، ونشأت صداقة بينها وبينه منذ ذلك الحين وحتى قرب وفاتها، ولكن أديب القاع الذى كان ملء السمع والأبصار شعر بأنه ضائع فى عالم الأضواء، لايستطيع الاختلاء بنفسه التي أحس أنه يفتقدها، فقرر الانسحاب من دنيا الأضواء، والانزواء فى بيته القابع فى أحد شوارع قلب القاهرة، وامتدت عزلة إسماعيل ولى الدين حتى وفاته، ولم تفلح شتى محاولات أصدقائه ومحبيه فى إعادته إلى الأضواء من جديد، ولقسم الأدب بجريدة الأخبار محاولة جادة فى استعادة هذا الأديب الموهوب وإعادته إلى الابداع مرة أخرى،حيث حاولنا-بعد أن نجحنا فى اختراق عزلته وزيارته فى صومعته-أن نقنعه بالعودة إلى الأدب، ولكنه رفض بصورة قاطعة، وأكد لنا أنه لم يعد يقوى على الكتابة، وكشف لنا على صفحات جريدة «الأخبار»عن مشروعه الذى تعثر ولم يجد لتحقيقه طاقة فى نفسه، وهو رواية أجيال اختار لها عنوانا مبدئيا هو«شجرة العائلة»، وقد شرع-فى عزلته- فى الإعداد له حيث أخذ يجمع الوثائق والأوراق الخاصة به، ولكن كلن مصير هذا المشروع هو التوقف، وفى حوار أديب القاع المعتزل مع صفحة الأدب أطلعنا ولى الدين على العديد من الأسرار فى حياته ومنها قصة حبه الحقيقية التى لم تتوج بالزواج، وحلمه فى الزواج الذى لم يتحقق، فعاش وحيدا بلا أسرة،وعبر الأديب الكبير الراحل لنا عن اعتزازه بالانتماء إلى الجيش المصري، فى فترة خصبة من حياته،وأشار إلى أن أديبنا الكبير الراحل يحى حقى هو الذى شجعه على مواصلة طريق الكتابة وأعجب كثيرا بقصته «حمام الملاطيلي» التي غاصت فى قاع واقعنا بشجاعة من دون إسفاف ولا انحطاط، وإذا كان الفيلم الذى حمل نفس العنوان قد أساء إلى الأصل الأدبى، فإن الأديب غير مسئول إلا عن نصه الروائى.