نسق المعتقدات والتنمية الثقافية
د . حسين على
تسود كل مجتمع منظومة من المعتقدات والعادات والتقاليد، وهى تسمى بلغة سوسيولوجيا الثقافة «الأيديولوجيا» أو «العقل الجمعي» أو «الوعي الجمعي» أو «منظومة الأفكار الحاكمة». إن وجود مثل هذه «الأفكار الحاكمة» في أي مجتمع من المجتمعات أمر بالغ الأهمية، لأنها تمثل ملاذًا آمنًا يلجأ إليه الأفراد والجماعات. إن وجودها ضروري كوجود الدفة للسفينة، فليس مقبولاً أن يتخبط المجتمع في كل اتجاه، أو يسير دون وجهة محددة، وليس مقبولاً بالقدر نفسه أن يهرول المجتمع مرتدًا إلى الوراء ظنًا بأن هذا هو السبيل الوحيد للرقي والتقدم. لكن من الضروري أيضًا ترك مساحات للإبداع والابتكار، مجالات تتحرك خلالها إرادات جديدة ترفض ما هو قائم وتنشئ جديدًا متوافقًا مع طبيعة العصر ومتماشيًا معها. أما التمسك بما هو قائم، والسير وفقًا لما هو سائد، وتقديس الموروث، لمجرد كونه موروثًا، فهذا هو الجمود بعينه المؤدي حتمًا إلى التخلف.
إن «نسق المعتقدات» التي يلوذ بها الكافة، تختلف باختلاف المجتمعات والعصور، إنها وليدة ظروف تاريخية واجتماعية وثقافية معينة، ومن ثمَّ فهى ليست مقدسة؛ وإن كان يتم الترويج لها في معظم الأحيان والأوطان على أنها كذلك!! كما يتكشف مدى هيمنة هذه الأفكار وتحكمها في سلوك أفراد المجتمع، وتوجيههم وجهة معينة دون غيرها. الفكرة الحاكمة هى تلك التي يسير على هديها أفراد المجتمع في تنظيم شئون حياتهم، وليس من الضروري أن يلزم عن هذا أن كل فكرة منتشرة على نطاق واسع في المجتمع تُعَد فكرة حاكمة. مثال ذلك تفشي الحماس الشديد لتشجيع الأندية الرياضية لكرة القدم في مجتمع ما؛ هذا التحزب للأندية الرياضية، ليس فكرة حاكمة لكل أفراد المجتمع، في حين أن النظر إلى النساء بوصفهن «ناقصات عقل ودين» هى فكرة حاكمة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. ومن الضروري البحث عن «الأفكار الحاكمة» في مجتمعاتنا، لإعادة فحصها ونقدها، للإبقاء على ما هو صحيح منها، واستبعاد ما هو فاسد.
نحن فى مسيس الحاجة لفحص أفكارنا ومعتقداتنا، كى نفهم مصدر الأفكار الكامنة داخل رؤوسنا، من أين جاءت؟ وكيف تكونت؟ وهل نحن الذين نملكها أم هى التى تملكنا؟ وعلينا أن نفرز الصائب من الباطل منها، ونميَّز بين الجيد والرديء. فإذا كانت الفكرة جيدة نُبْقِيها، أما إذا كانت رديئة فنطرحها جانبًا؛ لأن أفكارنا ومعتقداتنا هى التى تحركنا، تأمل سلوكك وأفعالك ستجدها جميعًا مسبوقة بفكرة طرأت على ذهنك دفعتك أن تسلك على هذا النحو دون غيره. من المؤكد أنك قبل أن تشرع فى قراءة هذا المقال طرقت ذهنك فكرة أن تقرأه، وبعد أن تفرغ من قراءته سوف تفكر قبل أن تتحرك من مكانك فى الخطوة التالية التي ستقوم بها، وهكذا تحركنا أفكارنا. لا ريب أننا إذا امتلكنا أفكارًا جيدة فسوف نسلك على نحو طيب، أما إذا كانت الأفكار التى داخل رؤوسنا رديئة فسوف نسلك على نحو سيئ.
كل إنسان يتمسك بمجموعة أفكار ومعتقدات ظنًا منه أنها بالغة الاتساق والتماسك، وأنه توصل إليها بعد تفكير وروية. يعتقد المرء أن كل معتقد يؤمن به، وكل فكرة من أفكاره، إنما هى أفكار ومعتقدات أصيلة ومتينة، ويتعامل معها بوصفها فكرته هو، ويتوهم أن ما يؤمن به من معتقدات إنما اعتنقها وآمن بها بعد تأمل طويل وعميق، وأنه توصل إلى هذه الأفكار والمعتقدات بنفسه، بل قد يصل الحال بالشخص إلى الاعتقاد الجازم بأن أفكاره ومعتقداته واضحة وضوحًا ذاتيًا، وأنها ترقى إلى درجة البديهيات والمسلمات بما تتحلى به من وضوح وصواب، ويعجب ممن يجادل أو يناقش صحة تلك الأفكار، فما بالنا إذا صادف من يرفضها ويتشكك في صحتها. بل إن البعض يعتقد فى صحة تلك الأفكار والمعتقدات اعتقادًا راسخًا إلى درجة الاستعداد للموت فى سبيلها.
من أين جاءت هذه الأفكار التي ينظر إليها البعض بوصفها ملاذًا؟
فى واقع الأمر، يُوْلَد الإنسان وعقله أشبه بصفحة بيضاء، ثم يبدأ فى الامتلاء خطوة خطوة - بمرور الوقت - منذ اللحظات الأولى للميلاد حتى سكرات الموت الأخيرة.
إن ما يصادفنى من أحداث ووقائع، وما يحيط بى من ظروف وأحوال، يختلف عما يحيط بك ويصادفك، ومن هنا ينشأ التنوع والاختلاف بين البشر، هذا الاختلاف الذى قد يصل إلى حد الخلاف والتطاحن والاقتتال.
إذا أدركنا أن أغلب أفكارنا ومعتقداتنا ليست أفكارنا ومعتقداتنا نحن، بل هى أفكار أناس آخرين حرصوا على دسها داخل عقولنا؛ لأنها غُرِسَت فى رؤوسهم بواسطة آخرين... وهكذا. إذا أدركنا ذلك بوضوح ازددنا تسامحًا، وزاد إيماننا بحق الآخر فى أن يختلف مع ما نؤمن به من أفكار ومعتقدات.
حين كنا أطفالًا تسربت إلى عقولنا أفكار كثيرة، بسبب افتقارنا للقدرة على الفحص والفرز والتحليل، وغياب التأمل المستقل، والتفكير النقدي الحر.
ولما كان عصرنا هو بحق عصر«العلم والتكنولوجيا»، فهذا يقتضي أن تكون «الفكرة الحاكمة» التي ينبغي أن نهتدي بها في كافة مناحي حياتنا؛ هى تغليب «التفكير العلمي»، إن غياب «التفكير العلمي» في تصريف شئوننا الخاصة والعامة، والتجاؤنا إلى الخرافات والخزعبلات في الفكر، والإتكالية والعشوائية في تطلعنا للمستقبل، واعتماد «الفهلوة» في سلوكنا اليومي، هذه المظاهر المرضية هى علة تخلف كثير من مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
إن تطبيق المعرفة العلمية أمر يتطلب، بالبداهة، شيئًا من مقدرة الحكم على القيم، أي يتطلب في كلمة واحدة الاستعانة بـ«الفلسفة»، فبعد أن نتوصل، مثلاً، إلى معرفة كيفية إنتاج الديناميت وإلى إدراك خواصه، يبقى لنا أن نجيب عن السؤال التالي: هل نلقي بالديناميت من الطائرات لتدمير المتاحف والمساجد والكنائس والمدن؟ أم نلجأ لاستخدامه في شق الطرق عبر الجبال؟ كذلك الأمر في حال معرفتنا بمفعول بعض العقاقير والغازات، إذ يبقى أمامنا هنا أيضًا، أن نقرر ما إذا كنا سنستخدمها في تخفيف الألم والقضاء على الأمراض أم لفناء الشعوب الآمنة؟ إن مثل هذه التساؤلات ذات طبيعة فلسفية، ومن ثمَّ تُتْرَك للفلسفة مهمة الإجابة عنها.
حين نتحدث عن طريقة توجيه حياة الإنسان وتنظيم مجتمعه، نخوض مجال القيم والغايات الإنسانية، أي نخوض مجالات البحث الفلسفي، وهى مجالات تهم البشر جميعًا، لا العلماء وحدهم، وفي مثل هذه المجالات يكون من الصعب على العالِم أن يقدم إلينا توجيهًا كاملًا، لأن تكوينه يحول بينه وبين التعمق في أمور معنوية شديدة العمومية كتحديد الأهداف التى ينبغي أن يتم توظيف العلم من أجلها.
وللنهوض من عثراتنا علينا – أفراد وجماعات – أن ننهج نهجًا علميًا مستندًا إلي فلسفة أخلاقية سامية. وتكريس النظرة العلمية ونشرها حتى تصبح مكونًا رئيسًا في ثقافة الإنسان العربي، وملاذًا لشبابنا للنهوض بالأوطان.