من التاريخ.. حريق روما
- أحمد صوانما بين الوقائع والمغالطات، تظل حكاية حريق روما واحدة من الأحداث التاريخية التي تتناقلها الأجيال، ويتداولها المؤرخون ليلقون بنظرياتهم ما بين الحين والآخر، الجميع يدقق محاولاً معرفة ماذا جرى حقاً في عاصمة الإمبراطورية التي كانت تحكم أقاصي الأرض في الثامن عشر من يوليو بعد 64 عاماً فقط من ميلاد السيد المسيح.
قيل أن ذلك اليوم كان بسبب حلم رآه الإمبراطور نيرون، الذي اشتهر بكونه واحداً من أكثر أباطرة التاريخ جنوناً، بعد أن رأى في خياله أن يعيد بناء روما؛ وتناقل الرواة أن الحريق بدأ من القاعدة الخشبية للسيرك الكبير، حيث شبت فيها النيران؛ وانتشرت بشدة لمدة أسبوع في أنحاء روما، والتهمت النيران عشرة أحياء من جملة أحياء المدينة الأربعة عشر؛ ويقول بعض المؤرخين أن المشاعل كانت تُلقى داخل المنازل المدينة بواسطة رجال مجهولين كانوا يقولون أنهم ينفذون الأوامر الصادرة إليهم، و ما أن هدأت النيران حتى اشتعلت مرة أخرى في حديقة تيجلينس قائد الحرس، و استمرت ثلاثة أيام، وبانتهاء الحريق كان ثُلثي مدينة روما قد تحوّل إلى كتلة من الأنقاض.
قيل كذلك إنه في اليوم الثالث، وبينما كانت النيران تتصاعد والأجساد تحترق، كان نيرون جالسًا فى برج مرتفع وسط صراخ الضحايا، يُمتع نظره بالحريق، وبيده آلة موسيقية ويغني أشعار هوميروس التي يصف فيها حريق طروادة؛ وبسبب هذا الموقف، سرى اعتقاد أنه هو الذي أمر بإشعال الحريق، أو على الأقل عمل على منع إخمادها، و انتشر هذا الاعتقاد بسرعة، و تهامس أهل روما بالأقاويل عليه، وتعالت كلماتهم، وتزايدت كراهية الشعب،
تروي الحكاية نفسها أن الإمبراطور -بعد وصول الأقاويل إلى مسامعه- أصبح يحتاج إلى كبش فداء يضعه متهماً أمام الشعب، وكان أمامه اختيار إما اليهود أو المسيحية الحديثة في روما، ولكن كان اليهود تحت حماية بوبياسبينا إحدى زوجاته نيرون، فصار كبش الفداء المسيحيين، أصحاب الدين الجديد الذين لم يكونوا وفاق مع سياسة الإمبراطورية.
بدأ نيرون يُلهى الشعب في القبض على المسيحيين واضطهادهم وسفك دمائهم بتقديمهم للوحوش الكاسرة أو حرقهم بالنيران أمام أهل روما في الستاديوم وفى جميع أنحاء الإمبراطورية، حتى أن مؤهلات الولاة الذين كانوا يتولون الأقاليم هو مدى قسوتهم في قتل المسيحيين، وسيق أفواج من المسيحيين لإشباع رغبة الجماهير في رؤية الدماء، وعاش المسيحيين في سراديب تحت الأرض وفي الكهوف .
و استمر الاضطهاد الدموى أربع سنوات ذاق فيه المسيحيون كل مايتبادر إلى الذهن من أصناف التعذيب الوحشى، و كان من ضحاياه بولس و بطرس اللذان قتلا عام 68، و لما سادت الإمبراطورية الرومانية الفوضى والجريمة، وفشل الإمبراطور في إدارة الأزمة تلو الأخرى، انصرف عنه أصدقاؤه وحاشيته، وأعلنه مجلس الشيوخ أنه أصبح "عدو الشعب"، ولم يجد بداً من الهروب من قصره إلى كوخ بعيد لأحد خدمه الذين بقوا معه، وهناك كان يبكي كثيراً على ما وصل إليه، وتذكر أمه وقال إنها هي من جلبت عليه اللعنة، وظل مختبئاً حتى شعر بأصوات سنابك الجنود تحوم حول المكان؛ فما كان منه إلا أنه قرر أن يقتل نفسه لتتخلص روما من مجونه وجنونه. فمات منتحراً في عام 68 مخلفاً وراؤه حالة من الإفلاس نتيجة بذخه الشديد و الفوضى من كثرة الحروب الأهلية .
ورغم انتشار تلك الحكاية، ذكر آخرون أن شهادة "تاليتس"، المؤرخ ورئيس قضاة الإمبراطورية الرومانية في كتابه التاريخي الشهير "الحوليات" تدحض تلك الشائعة عن نيرون، مؤكداً أنه كان موجوداً في مدينة "أنتيوم" وقت وقوع الحريق، وعاد على الفور إلى روما لتنظيم المساعدات للمتضررين منه، بل دفع أموالاً من ميزانيته الخاصة، وفتح قصوره للناجين من الحريق ووضع خطة تنمية جديدة للمدينة، بحيث لم تعد المنازل متلاصقة ببعضها، وأعيد بناؤها من حجارة القرميد، فضلاً عن توسعة الطرق.
ويشير تاليتس في كتابه إلى أن نيرون بنى قصراً أسماه "البيت الذهبي" لتجميل المنطقة التي دمرها الحريق وزاد مساحة الحدائق المحيطة بالقصر لتصل إلى 1.2 كم مربع.