الموسيقى في العصر الروماني
د . أمل مبروك عبد الحليم
لم يكن الرومان في السنوات الأولى من تاريخهم يعنون بنظريات الموسيقى وعلومها، ويرى بعض المفكرين أنه لا توجد موسيقى ممثلة لروما – على نحو قولنا بموسيقى الحضارة اليونانية – ولابد أن يكون قد توافر للرومان أغان شعبية بسيطة تمثلهم، وإن كانت هذه الأغاني قد ضاعت في غمار تيار حضارة موسيقية أجنبية نمت جذورها وازدهرت بعد نقلها إلى التربة الرومانية. فإذا قلنا موسيقى روما – على حد قول "بول هنري لانج" – فإننا نعني بذلك الموسيقى اليونانية بعد تطورها وممارستها في روما.
لم يسهم الرومانيون بالكثير في تقدم الموسيقى، فقد نقلوا النظريات والأساليب العملية اليونانية وعدلوها وفقًا لطريقتهم الخاصة في استخدامها. لكن في عهد "ماركوس فارو" بدأ علم الموسيقى يظهر بين مقومات التعليم، حيث كانت الأسر الراقية تُدرج الموسيقى ضمن برامج التعليم الثقافي، مع البلاغة والهندسة والرياضيات؛ وكان من مظاهر الروح العصرية أن تتعلم السيدات العزف على القيثارة. ومن أشد الشواهد الأدبية طرافة، تلك التي نظمها شاعر الحب "أوفيديوس" حيث ذكر: "أن من تريد أن تجتذب الرجل إليها، عليها أن تعرف كيف تُغني وكيف تعزف على القيثارة".
وفي عالم المسرح، نلتقي بالدراما اليونانية مرة أخرى، ولكن الأشعار اللاتينية قد اختلفت عن الأشعار اليونانية التي سبقتها في عدة نواح؛ فلم يعد للكورس أي وجود، ولم يبق عند الرومان غير أدوار غنائية منفردة أو أغان منفردة مصحوبة بآلة "المزمار"، ومع هذا فقد استمر وجود قدر كاف من الروح اليونانية تركت أثرًا في الموسيقى. على حين أن الشاعر والموسيقار كانا عند اليونان واحدًا، فإن الشاعر الدرامي والهزلي الروماني لم يكن يؤلف موسيقاه؛ وإنما كان يكلف موسيقيًا محترفًا بالتلحين الإبداعي. لكن لعب الفن الموسيقي دورًا رئيسًا في المسرح اليوناني، إذ كان يحفظ وحدة الأحداث ويزيد من واقعية الموضوع، بينما كان الممثل الروماني يستعرض فنه في مناظر متفرقة تفتقر إلى الاتصال والواقعية في كثير من الأحيان. وكان دور الموسيقى – في المسرح الروماني – ثانويًا، لا يزيد على ملء الفراغات بين الممثلين، أو مساندة أحد الممثلين. وبمعنى آخر، أصبحت مشاهد البراعة الفنية تجرى منفصلة وتُعرض في شكل مباريات موسيقية.
عادت جماليات الموسيقى إلى سابق عهدها مرة أخرى مع "أفلوطين" الذي أنشأ – معتمدًا على عناصر أفلاطونية وأرسطية – مذهبًا في الجمال اتسم بطابع الأفلاطونية المحدثة بوضوح. فقد كانت كل موسيقى تهتم أساسًا باللحن والإيقاع، بمعنى أنها انعكاس للموسيقى التي تتمثل في إيقاع العالم المثالي. واستطاع "أفلوطين" أن يشق طريقه إلى جماليات العصور الوسطى، واستعاد شعبية الفكرة البدائية عن دور الموسيقى في السحر، واتفق مع "أفلاطون" و "أرسطو" في الاهتمام بالقيمة الأخلاقية للموسيقى؛ لكنه اختلف عنهما في أنه لم يجعل هذه القيمة مبنية على أساس سياسي، بل على أساس ديني. ومن خلال الجمال وعن طريقه يطهر الإنسان روحه، فيرتقى بذلك في مدارج الخير واحدًا بعد الآخر. فإذا كان الإيقاع في الموسيقى مظهرًا للإيقاع في العالم المثالي، كانت الموسيقى أقدر الفنون على الارتقاء بالإنسان إلى مراتب أنقى وأصفى.
اكتسبت النظرية الأخلاقية في الموسيقى التي علت مكانتها عند "أفلاطون"، مزيدًا من القوة الدافعة على يد "أفلوطين"، ثم أصبحت هي السائدة طوال تاريخ الفن في العصور الوسطى. لكنها تعرضت في العصر اليوناني/ الروماني لانتقادات بعض الفلاسفة، فنجد "سكتس إمبريكس" أحد الشكاك كتب يقول: "إن الموسيقى فن للأنغام والايقاعات لا يدل على شيء عدا ذاته، والمعيار الوحيد الذي ينبغي أن نحكم به على الموسيقى هو المتعة الحسية التي تثيرها الأصوات الموسيقية فحسب".