الجمعة 22 نوفمبر 2024 02:13 مـ 20 جمادى أول 1446هـ

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

آراء وكتاب

د.أمل مبروك عبد الحليم رئيس قسم الفلسفة

الموسيقى في العصور الوسطى

كثيرًا ما أعترف بالقيمة العظيمة للأناشيد الكنسية عندما أتذكر الدموع التي ذرفتها لدى سماعي هذه الأناشيد في بداية عهد استعادتي للإيمان. نعم في ذلك العهد بالذات، عندما كان ما يستثيرني هو معاني الغناء لا الغناء ذاته، وبخاصِة عندما يقوم بالأداء صوت واضح قادر على اختيار النقلات المناسبة من طبقة لأخرى. عندئذ لا يكون أمامي مفر سوى الاعتراف بالخير العظيم الذي يجلبه هذا الفن. وهكذا أتأرجح بين مخاطر اللذة، وبين عادة مفيدة أقرها العُرف ...ومع هذا أعترف مرة أخري – بعد أن أدركت أن ما تأثرت به كان الصوت أكثر من الترانيم – بأنني قد أسأت إساءة بالغة، وأتمنى لو أنني لم أستمع إلى الموسيقى".

تُصور هذه الكلمات من اعترافات "القديس أوغسطين"، المشكلات الأخلاقية التي واجهتها العقيدة الجديدة التي صرح بها أحد آباء الكنيسة المرموقين في المذاهب الفلسفية القديمة، غير أنها تمثل – كما رأى بول هنري لانج – مشكلة موسيقى الكنيسة ذاتها التي تباينت في العصور الوسطى أشد التباين مع المثل العليا القديمة؛ ولكنها عادت للظهور مرارًا خلال القرون العديدة التي أعقبت ذلك.

لقد ظل تاريخ الموسيقى أكثر من ألف عام مرادفًا لتاريخ الموسيقى في الكنيسة المسيحية، حيث استطاعت الكنيسة أن تحافظ على بقايا الفن الإغريقي القديم، وأن تنتقي منه العناصر التي قدر لها أن تتطور – فيما بعد – إلى صورة الموسيقى الغربية الحديثة. وقد خضعت أغلب الفنون خلال هذه الفترة لسلطان الكنيسة التي فرضت نفوذها على جميع المظاهر السياسية والاجتماعية والحضارية. ورغم ما شكلته الكنيسة من عداءٍ مستمر لأغلب الفنون فإن الموسيقى كانت هي الفن الوحيد المسموح به في إقامة الشعائر الدينية المسيحية منذ البداية، وعندما ازدادت الكنيسة قوة، صارت قواعدها الموسيقية أوامر مطلقة؛ وأن جميع إشارات آباء الكنيسة إلى الموسيقى تهدف – بلا استثناء – إلى تحديد أفضل طريقة لاستخدامها من أجل تحويل الوثنيين إلى زمرة المسيحيين.

معنى هذا أنه في بداية الأمر لم تهتم الكنيسة بالفنون والآداب، لأنها رأت فيهما استمرارًا للحضارة الوثنية. ولم يكن إعجاب الفلاسفة اليونانيين بالموسيقى من أجل الموسيقى ذاتها أو جمالها، بل من أجل قيمتها الأخلاقية والتربوية؛ لذلك لا نتوقع أن تتبع الكنيسة المسيحية النظرة إلى الفن نفسها. وإذا كانت الفلسفة القديمة في الحياة – بأغراضها الدنيوية – قد اعترفت بالتأثير الحسي للموسيقى، وحاولت تبرير وجودها بالانتفاع بخصائصها الأخلاقية، فما الذي نتوقعه من المسيحية التي تعتبر الحياة مجرد مرحلة تمهيدية للأخرة؟ أنها لن تستطيع قبول الفن والسماح به، إلا إذا ساعد الإنسان على بلوغ هذه الغاية العلوية.

كانت الموسيقى تحيط بآباء الكنيسة من كل جانب، وكان عليهم الاعتراف بوجودها. وكلما ازداد اعترافهم بتأثير الموسيقى على النفس الإنسانية، ازداد وضوح الازدواج الذي عبرت عنه العبارات التي صرح بها "القديس أوغسطين" سلفًا. وكان من الضروري كبح جماح هذا التأثير القوي وتوجيهه لغايات نافعة، كذلك لابد من محاربة تأثيرها الحسي الشهواني. لقد رأى مفكرو العصر الكلاسيكي – في الماضي – أن واجب الدولة يحتم عليها التدخل في غاية الموسيقى وطريقة تأليفها، لتجنب أي آثار ضارة. واضطلعت الكنيسة بهذا الدور، ورأت أنه لا يكون للموسيقى قيمة كبرى بوصفها فنًا في ذاته؛ والمبرر الوحيد لوجود الموسيقى هو الخدمة التي تؤديها للكنيسة، مثل: "إصلاح المؤمنين" و "المساعدة على تدعيم إيمانهم" و "إثراء وجدانهم". ولتحقيق هذه الغاية يجب أن تفسح الألحان الطريق للكلمات.

وقد أشاد الكتاب المقدس بفضائل الموسيقى، واتفق – في هذه النقطة – كل من الاصحاح القديم والعهد الجديد. وهذه هي العذراء "مريم" تنطلق تسبيحًا بحمد الله في أغاني تهليلية وهي تتوقع الأحداث التي ستمر بها حتى قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام، الذي بشرت بميلاده أغنية ملائكية موجهة إلى كل أصحاب النية الطيبة من بني البشر. ورنت أنغام الموسيقى في ختام حياة السيد المسيح على الأرض، وكذلك في العشاء الأخير عندما ترنم المسيح بتسبيحة حمد فيها الله، بالاشتراك مع حوارييه قبل ذهابه إلى جبل الزيتون: "وأما الأحد عشر تلميذًا فانطلقوا إلى الجبل حيث أمرهم يسوع. ولما رأوه سجدوا له ولكن بعضهم شكوا، فتقدم يسوع وكلمهم قائلاً: دُفع إلى كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فأذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والأبن والروح القدس. وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (إنجيل متى 28).

ويربط مؤرخو الموسيقى بين اسمي اثنين من كبار رجال الكنيسة الأولى وبين بداية الغناء البسيط، كان أولهما "القديس آمبروز" أسقف ميلانو الذي عاش قرب نهاية القرن الرابع الميلادي؛ وهو من رواد تطوير صورة الأنشودة الدينية واهتم بنشرها على نطاق شعبي. والثاني هو "جريجور الأكبر" الذي يُعّدُ من الشخصيات العظمى في تاريخ موسيقى الكنيسة المبكرة. ولقد بلغ من شهرة "جريجور" الموسيقية أن جعلت اسمه مرتبطًا بكل الكيان الموسيقي للكنيسة في العصور الوسطى. وقد أسهم آباء كثيرون للكنيسة في تطوير الأنشودة الدينية وجعلها مقبولة من حيث هي نوع من الأنواع الموسيقية، حتى أصبحت أفضل من المزامير؛ كذلك بساطة هذه الأنشودة جعلتها ملائمة للغناء الديني الجماعي.

 

 

 

الموسيقى. العصور الوسطى. فلسفة