الجمعة 22 نوفمبر 2024 02:19 مـ 20 جمادى أول 1446هـ

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

آراء وكتاب

موسيقى عصر الباروك

د . أمل مبروك

درست الفلسفة دراسة طويلة ما يسمى عادة باسم: المشاعر والأحاسيس والأحوال المزاجية، والانفعالات، فهي تنتمي إلى صميم تكوين الإنسان من الداخل إلى حد لا يمكن معه التغاضي عنها فى أي محاولة لتفسير الإنسان. ولقد حاول الفلاسفة من "سقراط" و"أفلاطون" حتى العصور الحديثة تحليل الحياة الانفعالية للإنسان وربطها من حيث هو موجود أخلاقي عاقل. وكان "أرسطو" في كتابه "السياسة"، وكذلك "نيكولا دي كوزا"، قد كتبا عن مذهب المشاعر في صلته بالموسيقى، فاستخدم موسيقيو عصر النهضة هذا المذهب بحذر. أما موسيقيو عصر الباروك فقد ذهبوا إلى حد التطرف في الطريقة التي عبروا بها عن المجموعة الكاملة للمشاعر تطبيقًا لهذا المذهب، كما أكدوا أيضًا على الكلمات الهامة في النص عن طريق التنافر النغمي؛ كما أدت البراعة المتزايدة في العزف وتطور الآلات الموسيقية، إلى إتاحة وسائل أفضل يستطيع بها الموسيقي – في هذا العصر – أن يؤكد معنى الكلمة المكتوبة عن طريق زيادة المشاعر حدة.

وأحيا "كلاوديو مونتيفردي" – الموسيقي الإيطالي الشهير وملحن الأوبرا – روح التراجيديا القديمة وخلق دراما موسيقية في الحضارة الغربية، إذ كان يصور – في موسيقاه – آلام البشر، وعجز الإنسان عن السيطرة على انفعالاته؛ وكانت مؤلفاته الموسيقية تنصب على عواطف الإنسان ومشاعره وآلامه. ولكي يحقق هذا الغرض، استخدم من الإيقاعات والتوافقات ما أثار غضب أنصار القديم، وبخاصَّة استخدامه للتنافر الهارموني. لقد انصب النقد على موسيقى "مونتيفردي" لأنها بقدر ما أدخلت قواعد ومقامات وصياغات جديدة للعبارات الموسيقية، كانت خشنة لا تُطرب الأذن.

وقد وجد "مونتيفردي" في كتابات "أفلاطون" تبريرًا فلسفيًا لأفكاره الجمالية الجديدة فقال: "لقد وجدت – بعد إمعان الفكر – أن الانفعالات الرئيسة التي تنتاب نفوسنا ثلاثة: الغضب والاعتدال والتواضع، وهذا ما أعلنه أفضل الفلاسفة، وما تثبته طبيعة صوتنا ذاته بما فيه من طبقة مرتفعة وطبقة خفيضة وطبقة وسطى؛ كما يدل فن الموسيقى على ذلك بوضوح في استخدامه للألفاظ بقلق وبعذوبة وباعتدال. والحق أنني وجدت في أعمال الموسيقيين السابقين أمثلة للعذب والمعتدل، لكني لم أجد أبدًا أمثلة للقلق، مع إن أفلاطون وصفه في الكتاب الثالث في الخطابة بقوله: "لنأخذ ذلك الانسجام الذي يصلح لمحاكاة أقوال رجل شجاع مشتبك في حرب". ولما كنت أدرك أن الأضداد هي أقدر الأشياء على تحريك نفوسنا، وأن هذا هو الهدف الذي ينبغي أن تتجه إليه كل موسيقى جديدة، فقد أخذت على عاتقي – بجهد وعناء – أن أكشف هذا النوع من جديد".

وتوسع "مونتيفردي" في استخدام التوافقات الهارمونية في التعبير عن النصوص الشعرية، وكان يعتقد أن على الهارمونيا أن تحاكي مفهوم النص، لاسيما حين يكون الأمر متعلقًا بانفعالات بشرية؛ واستخدامه لهذه التوافقات الهارمونية كان بغرض تحقيق علاقة تعبيرية بين النغم والكلام. ولا شك أن استخدامه للموسيقى، أساسه إظهار المعنى الكامن في النص على نحو أكمل، لأنه اعتقد أن الموسيقى ينبغي أن تتشكل وفقًا لمعنى الألفاظ. وكانت طريقته في فهم وظيفة النص متوافقة مع آراء جميع موسيقي عصر الباروك، إذ إنه وضع مجموعة من التعبيرات الموسيقية لتصوير أفعال بشرية محددة وانفعالاتها.

وقد أوضح "جوليوس يورتنوى" أن "مذهب المشاعر" أصبح أظهر في الأبحاث الخاصة بالفلسفة الجمالية الموسيقية في الفترة المتأخرة من عصر الباروك. وعلى حين اهتم الفلاسفة والباحثون بوجه عام بالطبيعة العملية والوظيفة الأخلاقية للموسيقى، فإن الموسيقيين أكدوا أن العنصر المهم إنما هو صوت الموسيقى وطريقة استجابة السامع لها. من هذا المنطلق استخدمت موسيقى عصر الباروك "مذهب المشاعر" في البداية لتأكيد دلالات النص الكلامي وزيادة فعالية اللحن الموضوع. لكن "مذهب المشاعر" هذا ازداد بمضي الوقت ثباتًا، حتى أصبح الموسيقيون يستخدمون تعبيرات موسيقية موحدة لإثارة انفعالات معينة وبعث صور متوهمة في النفوس. وأدت هذه الطريقة العقلية في خلق فئة من المؤثرات الموسيقية لوصف الحب والشفقة والكراهية، أو بعث حالة نفسية تتلاءم والأفعال المطلوب تصويرها، أدت إلى تشويه التوازن الذي وضعه اليونانيون بين النص واللحن.

 

تاريخ الموسيقى. عصر الباروك. فلسفة