خطاب (4) .. قلب الزمالك النابض وغراميات جيل السبعينيات
د . رضا شحاتة
ليل الزمالك آسر وله ذائقة خاصة .. الشوارع في المساء نائمة ومشهد الأضواء المتلألئة في الظلام للكازينوهات والعوامات علي سطح النيل مثير .. هذا الحس الغارق في الخيال يذكرنا بهذا المشهد المدهش لنجيب محفوظ فى مطلع رائعته «الحرافيش» .. حيث السطور الأولى في الرواية تقول «فى ظلمة الليل العاشقة، فى الممر العابر بين الموت والحياة على مرأى النجوم الساهرة، على مسمع من الأناشيد البهيجة الغامضة، طرحت مفاجأة متجسدة للمعاناة والمسرات الموعودة لحارتنا».
حي الزمالك في السبعينيات .. مثل الحمامة البيضاء علي شاطئ النيل .. قضى الشاعر عبد الفتاح أمين في رحابه أربع سنوات أثناء الدراسة وعاد إلى قريته وفي روحه عطر هذا الحي ونبضات إيقاعه الذي يموج بالمشاعر والعواطف والأحاسيس .. عاد عبد الفتاح يحمل العديد من دفاتر الشعر الممتلئة بالخيال وبالصور والمتدفقة بالحب والشجن.
الشعر هو ذاكرة الأماكن وهو روحها النابض .. والشاعر الصادق المتأمل للوجود في هذا الزمان يصعب عليه التحرر من سلطان المكان والحكايات التي ارتبطت به .. الكتابة في الأدب لا شيء فيها محايد فهي دائماً تبحث عن غاية .. ولذلك نجد أن جمالية التقاطع بين الأحداث الحية .. وبين جغرافيا الأماكن في المخيلة .. هو الذي يولد السحر والشاعرية والخيال عند الكتابة عن المكان في القصيدة العربية.
عبد الفتاح أمين كان واحداً من أبناء الطبقة الوسطى القادمين من الريف والمدن الصغرى، وهذا الشباب المغترب بالقاهرة كان يتعقب الشعر حيث يسكن .. وينقب عن وجه الحقيقة الشعرية أينما تكون .. ويشعر بالفخار بالذات المشوب بالخجل .. كان عبد الفتاح ممثلاً لمخيلة هذا الجيل الممتلئة بالحب والشعر والعاشق للروايات الرومانسية .. وهكذا كانت الأيام في هذا الزمن الخلاب والأنيق .
اقرأ أيضاً
- حمدي الوزير: عادل إمام أستاذ ومحمود عبد العزيز تميز بالتلقائية
- علي أنغام مصباح علاء الدين.. صفحة نور الشريف ترد علي انتقادات الجمهور
- الرسمية للفنان نور الشريف تنفي خبر بيع مقتنياته
- أحمد الدمرداش في ضيافة نور الشريف الصغير
- في ذكرى وفاته .. محطات فنية هامة في مسيرة نور الشريف
- إلهام شاهين: نور الشريف أكثر إنسان تعلمت منه .. وطبعنا واحدة
- صفحة نور الشريف تطرح مقارنة بينه وبين عمر الشريف
- ذكرى ميلاد زبيدة ثروت.. شاركت في مسابقة أجمل 10 وجوه للسينما
- حقيقة تدهور الحالة الصحية لمدير صفحة نور الشريف
- الرسمية للراحل نور الشريف : ”المشوار” علامة فارقة في دراما محمد رمضان
- بعد تصدره التريند .. محبي نور الشريف تهنئ حسن الرداد
- ليس هكذا نتعامل مع نور الشريف ؟!
الزمالك ذلك الحي المليء بالأشجار والأحلام .. هل تتذكر يا صديقي .. ونحن نتجول في الشوارع حول الكلية والعيون تبحث ..عن ممثلات السينما وفنانات الزمن الجميل .. هل تتذكر شكل عربات الهيئات الدبلوماسية الفارهة .. وربطات العنق والأحذية اللماعة التي تعارف الدبلوماسيون علي ارتدائها.
عشرات الأسئلة والتصورات والأفكار تدور في مخيلتي عن الإحساس بتلك الفترة الحالمة .. داخل هذا الإحساس البرزخي الذي يشعرك بالتيه والزيغ في الإدراك وكأنك في غيبوبة لا تدرك هل أنت موجود أو لا موجود .. مرئي أو لا مرئي .. لا أزعم الآن أني في تلك الفترة أتذكر تفاصيل شعرك لكن كل ما نتذكره وكل ما لدينا هو روح شعرك الرومانسية الهائمة التي يمكن استعادتها مع هذا المقطع من قصيدة " أبيع قلبي " يقول الشاعر ..
أبيـــع قلـــبي .. بــــأي ثمــــن!!!
أبيع صبايا .. وسنين هوايــــا ..
وأستبقى لدى سنـــــين المحن ..
فمن يشتريه .....................
ومن يشتريني .. ومن يؤتـمن ..
في شارع إسماعيل محمد حيث توجد الكلية .. كانت تحتشد علي جانبي هذا الشارع الأشجار الباسقة من "الجاكارندا" "والبومباكس" "والبونسيانا" التي تشتبك أغصانها من الجهتين فتجعل فوق أديم الشارع ظل من الأزهار الحمراء والبنفسجية .. في هذا المكان كنا جميعاً يتملكنا الإحساس المرهف بالرومانسية .. ولا ندرك إلا الحسن والجمال الطاغي في كل الأشياء. يا صديقي .. في هذا الحي الجميل الهادئ وفي سبعينيات القرن الماضي تعيش الكثير من نجمات السينما والجميلات من بنات الدبلوماسيين والطبقة الارستقراطية .. هل تتذكر بلكونة المطرب عبد الحليم حافظ في الدور السابع 12 شارع حسن صبري أمام حديقة الأسماك مكان لقاءات المحبين في فيلم ..الوسادة الخالية.. هل تتذكر تلك الأغاني التي عذبتنا .. أول مرة تحب يا قلبي .. صافيني مرة .. تخنوه وعمره ما خنكم .
جيل السبعينيات كان جيلاُ مريضاً بالرومانسية ولديه استعداد فطري لسماع أغاني الحب .. وكتابة شعر الحب .. وقصص الحب .. والعيش في الحب ونحن مغمضوا العينين .. ومع ذلك كان يعرف في الوقت ذاته بكل شجاعة .. موت الأماني وانتحار الرجاء.
وعندما أتذكر كل تلك الخيالات الطائشة في السبعينيات أضحك من كل قلبي .. والغريب في الأمر أن هذا الإحساس بالرومانسية كان يتملك نفسية جيل كامل وكأننا طبعات متكررة لنسخة أصل واحدة .. كنا ننظر إلى هذه المفارقات الحياتية في الحب ونتذكر الشاب كمال عبد الجواد .. الفنان "نور الشريف" في فيلم "قصر الشوق" .. ذلك الفتى المثقف الرومنسي الحالم مفرط الحساسية .. الذي أحب "عايدة شداد" الفتاة الجميلة الأرستقراطية النرجسية .. التي تخلت عنه لتتزوج صديقه "حسن سليم" شاب عملي من طبقة الأثرياء .. وبعد هذه الخيانة المؤلمة يكفر "كمال" بالدنيا وبالحب وبالمبادئ والمثل العليا التي آمن بها .. في الحقيقة .. عندما يصرع الحب صاحبه يتيح الشعر هنا لنا مخرجاً للهدوء وللهروب .. فهو مثل الحبوب المنومة نبلعها وننام لنحلم بشهرزاد في ألف ليلة وليلة .
ولأن مصادر الشعر في التعبير بشرية تتكرر نفس حدوته الوجد والشوق والهيام .. ولأن النفوس المكسورة تدافع عن نفسها بالكلام والعتاب .. نتعجب من المجاز الكذوب في الشعر .. ونتسائل .. كيف تكون الخيانة في الحب حلاً ؟ وكيف يكون النفاق في الحب جميلاً ؟ أننا الحالمون جيل السبعينيات كنا نسمع عبد الفتاح أمين ونحن مصدقون ما يكتب ! .. يقول الشاعر في قصيدة " أغامر سفراً إليك." أعرف أني أغـامر سفراً إليك .. وأركب بحراً هادر في مقلتيك .. وأنـــي أطلـــب مـــنك المحال .. ولو ســـــبحت بـــعدد الرمال .. يــــــبقى هواك شـــيئاً مـحال .. في هذه الفترة الزمانية من السبعينيات .. كان التعبير عن الذات هو تعبير عن ذوات الآخرين .. ولا أشعر بأني أخون الحقيقة عندما أقول مجازاً .. كان معظم هذا الجيل من الشباب مغرماُ بفتاة جميلة في الروايات اسمها "جوليت" هذا الجيل يشترك في مجموعة من السمات والمشاكل الواحدة، أهمها علاقات الحب والغرام وخيانة القلب .. والبحث عن عالم المثال الأفلاطوني في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية .. تلك المطالب ا