الجمعة 22 نوفمبر 2024 08:11 مـ 20 جمادى أول 1446هـ

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

آراء وكتاب

هناء شلتوت

هناء شلتوت تكتب: ”بره المنهج”

عند الثانية عشرة ظهرا دق "جرس الفسحة" إيذانا بخروج جميع التلاميذ إلى فناء المدرسة لقضاء وقت الراحة... ذاك الفناء الذي يجتمع فيه "محمد وعيسى ومريم وفاطمة وجورج"، تشهد طرقات هذا الفناء على سجالات طفولية، ففي هذا الفناء يركض الأطفال سويا وتمتزج ضحكاتهم بأحلامهم الصغيرة.

يمضي الوقت سريعا وسرعان ما يدق الجرس مرة أخرى فقد حان وقت العودة إلى الفصل، يصعد محمد وعيسى ويجلسان في مقعدهما الذي يتشاركان يوميا الجلوس عليه، يدخل مدرس اللغة العربية ليقدح بصوته الجهوري: "المسيحي يطلع بره... عندنا حصة دين".

يلملم "عيسى" شتات أفكاره ويرحل خارج الفصل ترتسم على وجهه البسمة لحصوله على فسحة أخرى في نفس اليوم منتظرا صديقه "محمد" لينتهي من "حصة الدين" حتى يكايده بهذه الميزة التي يحصل عليها "عيسى" يومان في الأسبوع.
فمدرسته ليس لديها مدرسا للتربية الدينية المسيحية بعد، لذلك تستعيض عنها إدارة المدرسة بمنح التلاميذ المسيحيين فسحة للهو في الفناء حتى ينتهي مدرس العربي من تلقين أقرانهم المسلمين جرعة التربية الدينية الإسلامية، إلا أن هذه البسمة سرعان ما تزول عن وجه "عيسى" عند نزوله إلى الفناء وحيدا لتعبث الأفكار في ذهنه، ويتساءل: "ما هذا الدين الذي يفرقني عن صديقي في الأسبوع يومان؟!"، وكأن هناك أمرا ما ليس بوسع عيسى استيعابه بعد!.

تدور بعض المواقف الأخرى في ذهن عيسى الذي يتندر عليه زملاؤه أحيانا وينعتونه ب "أربعة ريشة " –في إشارة إلى الصليب- ويتذكر لماذا يرفض صديقه محمد تبادل الطعام معه؟!، ولماذا ترفض فاطمة اللعب مع زملائها الذكور؟!، ولماذا يكره صديقه جورج الأرثوذكسي صديقهما الثالث الإنجيلي ويرفض التقرب منه؟!.

مواقف تتناقلها الأجيال جيلا بعد جيل وسطرتها كراهية متجذرة في طباع وعادات المجتمعات العربية، نحو الآخر المختلف ثقافيا أو دينيا أو عرقيا، أو حتى مذهبيا، حيث كان لمناهج وأساليب التعليم فيها الكلمة العليا، فمن المدرسة والفصل تبدأ الحكاية التي غالبا ما تنتهي بفتنة طائفية على مشارف إحدى قرى الصعيد في مصر، أو في بعض محافظات العراق، ولبنان، وسوريا، وغيرها من الدول التي تأن من صعوبة اندماج أتباع الديانات والطوائف والثقافات.

ومن ثم فالمجتمع المصري كبقية المجتمعات العربية ما زال يعاني من أزمات غياب الحوار وخطاب الكراهية، الذي ساعد في انتشاره مناهج التعليم التي لم تضع هذه الأزمات يوما في اعتبارها، فضلا عن أن نظام التعليم الديني في المجتمعات التعددية مازال يشكل معضلة جوهرية، تعكس بنية نفسية متجذرة في المجتمع، وتساهم في ترسيخ نظام اجتماعي يولد بدوره عناصر هذه التربية الفكرية ويغذيها ويعمل على استمرارها من سيء إلى أسوأ، كما أنه يطرح إشكاليات معاصرة باتت تتطلب مقاربات من أقطاب المجتمعات.

فلا شكك في أن التعليم هو اللبنة الأولى التي يعول عليها في بناء الأفراد فكريا وثقافيا، ولا شك أيضا أن أساليب التعلم لها دور كبير في توجيه الأفراد نحو القيم التي تنطوي عليها ترسيخ أسس الحوار والتفاهم والاحترام بين الثقافات، وذلك لتمكين الأفراد والمجتمعات من العيش في سلام.

كما أن لتعليم العلم منزلة عظيمة وأجر كبير في الشريعة الإسلامية، فلقد كان الأمر بالقراءة هو أول أمر رباني لرسول الله صلى الله عليه وسلم، في قوله تعالى: ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم﴾ [العلق: 1-5]، كما بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعليم العلم من الأعمال الصالحة التي يلحق المسلم أجرها في الآخرة, فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»، ومن ثم فتنوير العقل الإنساني بالعلم يعد عمل عظيم في الإسلام، خاصة إذا سار على نحو ينتفع به.

واتساقا مع منهجية الإسلام في الوصول إلى علم ينتفع به، وتحقيق الأركان الأربع للتعليم التي حددتها (يونسكو) ومن بينها "التعليم للعيش مع الأخرين "، فقد بات من الضروري الانتقال من مرحلة التعليم التقليدي، إلى التعليم القائم على نفع الإنسانية وضبط القيم والمفاهيم والمصطلحات، ولعل هذا ما نرنو إليه، بغية الوصول إلى حلول لجميع أزمات الحوار التي يعاني منها كل فرد يحيا على هذه المجرة، والعمل على تفعيل دور المؤسسات التعليمية في إذابة جليد الخلاف، وإبراز قيمة الحوار باعتباره أرقى الأساليب الدعوية، فقد أصبحت الحاجة ملحة إلى معالجة المشكلات ووضع حلولا "بره المنهج"، حتى نخرج الدجاجة من عنق الزجاجة!، فعلى الرغم من كون هذا التشبيه يحمل نوعا من الفانتازيا، إلا أننا قد نكتشف عند التبحر فيه، أنها فانتازيا أقرب الى الواقع، فبعضنا قد يعلم بهذه القصة التي يرويها أحد المعلمين لتلاميذه، قصة "الدجاجة والزجاجة" فقد كان مدرسا للغة العربية، حاول أن يختبر ذكاء تلاميذه فرسم على السبورة زجاجة ذات عنق ضيق وبداخلها دجاجة، ثم قال: من يستطيع أن يخرج هذه الدجاجة من الزجاجة؟! بشرط ألا يكسر الزجاجة ولا يقتل الدجاجة؟.

بدأت محاولات الطلبة وباءت جميعها بالفشل، صرخ أحد الطلاب من آخر الصف يائسا: يا أستاذ لا تخرج هذه الدجاجة إلا بكسر الزجاجة أو قتل الدجاجة، فقال المعلم: لا تستطيع خرق الشروط، فقال الطالب متهكما: إذن يا أستاذ قل لمن وضعها بداخل تلك الزجاجة أن يخرجها كما أدخلها، وهنا ضحك الجميع ولكن لم تدم ضحكتهم طويلا، فقد قطعها صوت المدرس وهو يقول: أحسنت، هذه هي الإجابة، من وضع الدجاجة في الزجاجة هو وحده من يستطيع إخراجها، ومن ثم فعلى منوال قصة "الدجاجة والزجاجة" نقيس وضع المناهج الدينية وأساليب التعليم المعقدة، والتي أفرزت فكرا مشوها أحدث شقوقا في جدار المجتمعات وتسبب في انتشار خطاب الكراهية والتطرف، ووضع أجيالا كثيرة في عنق الزجاجة التي بات علينا كسرها دون إحداث شقوقا جديدة فيمن وضعناهم بداخلها، فمن "قضية التعليم" علينا أن نبدأ ولا ننتهي..

اقرأ أيضاً

هناء شلتوت بره المنهج التعليم الحوار حوار الأديان المجتمع مسلم مسيحى