الهجرة النبوية نقطة التحول السياسي والاجتماعي
د. زينب المنسي
بعيدا عن الشكل الديني للهجرة النبوية فقد كانت حدثا فريدا ونقطة فاصلة غيرت تاريخ المنطقة والقبائل حيث شكلت الهجرة تحولاً سياسيا واجتماعيا في تاريخ العرب حيث ظهرت لأول مرة الدولة بمفهومها المدني وظهرت علاقة المواطنة في مفهوم الإخاء بعيدا عن رابطة العصبية القبلية حقيقة إن البيئة المدنية في يثرب ساعدت الرسول صلي الله عليه وسلم علي بناء الدولة فقد كان مجتمع المدينة المنورة مجتمعا متكاملا متعدد الأنشطة ما بين زراعة وتجارة وصناعة علاوة علي التعدد الإثني والعقدى فقد وجدت بالمدينة عناصر غير عربية و يهودية ومسيحية ووثنية .
إن هجرة النبي صلي الله عليه وسلم وصحبه نقلت الدعوة الإسلامية من حالة الحراك الاجتماعي والديني إلي البعد السياسي فبعد ثلاثة عشر عام من المعاناة والاضطهاد عاشها المسلمون في مكة كـ أقلية مضطهدة ومنبوذة بحثت عن النصرة فلم تجدها بين العرب فكان التوجه للحبشة .
ومن هنا كان التحول السياسي بفضل الهجرة حيث أصبح النبي صلي الله علية وسلم رئيس وحاكم المدينة المنورة بإجماع كل من فيها من قبائل الأوس والخزرج والجاليات اليهودية والمسيحية بها وأصدر أول وثيقة تنظم العلاقات بين الناس في تاريخ العرب ومن الممكن اعتبار وثيقة المدينة عقد اجتماعي عربي لا يقل أهمية عن الماجناكرتا حيث ضمنت وثيقة المدينة الحقوق والحريات ونظمت العلاقات بين مجتمع المدينة بكل مكوناته القبلية والعرقية والدينية كما عملت الوثيقة علي إعلاء شأن المرأة ومكانتها داخل الدولة باعتبارها جزءا أصيلا بها وقضت الوثيقة علي التمييز فقد نصت الوثيقة علي أن المؤمنون أمة واحدة مما يعني إنهاء فكرة التمييز بين الأغنياء والفقراء وحتي طبقة العبيد فكان بلال بن رباح النموذج الذي أراد الرسول الكريم أن يكون قدوة بين المسلمين تحقيقا لمبدأ المساواة بين الناس فلم يكن هناك مانعا من أن يؤذن بالناس شخص مختلف عن العرب في العرق واللون .
وظهرت بفضل هجرة النبي فكرة المواطنة والتي عرفت بالتآخي حيث ذكر القرآن الكريم التآخي بين الأنصار والمهاجرين بقوله : " والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " : سورة الحشر وقال تعالى: " إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون " : سورة الحجرات ، وقال تعالي : " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذا كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا "آل عمران لقد ارسي مبدأ التاخي مبادى التكافل الاجتماعي بين المسلمين حيث قال رسول الله " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"أخرجه البخاري." والمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه " أخرجه البخاري "والحديث الشريف عن أنس بن مالك قال "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه كما يحب لنفسه "رواه وأخرجه البخاري ومسلم .
كما أرست الوثيقة مبدأ التكافل الإنساني واتضح ذلك في افتداء المسلمين لذويهم من غير المسلمين من باب التكافل الإنساني وفك كرب المحتاج ، من ناحية أخرى أرست وثيقة المدينة مبدأ قانوني هام لم يعرفه العرب من قبل وهو رد المظالم للحاكم من باب أن كل شجار أو خلاف مرده علي الله عزوجل ورسوله مما ساعد علي هدوء المجتمع وسكون الخلافات فيما بين القبائل والعصبيات وعلي الأخص الأوس والخزرج وخاصة فيما يتعلق بقضايا الأخذ بالثأر .
أن أهم ما يميز وثيقة المدينة هو تعزيز الانتماء للدولة بعيدا عن العصبية القبلية فخرجت دائرة القتال من أجل القبيلة والفرد لتصبح من أجل الدولة ورابط الأخوة بين أبناء المجتمع الواحد ضد أعداءهم .
وفي إطار فكرة المواطنة اعتبرت الوثيقة أن الدفاع عن الدولة لا يقتصر علي المؤمنين وحدهم بل هي مسؤولية كل أطياف المجتمع فكل فرد ملزم أن يؤدي حق الدولة عليه فينفق اليهود مع المؤمنين ما داموا محاربين باعتبارهم مواطنين داخل الدولة .
ومن باب تعزيز فكرة الدولة جرمت الوثيقة التحالف مع قريش أو أحد من أعداء دولة المدينة ممن يناصر قريش وغيرها ضد النبي صلي الله عليه وسلم .
وعلي الرغم من تشديد الصحيفة علي الالتزام والنص الصريح علي الوفاء وعدم الطعن بالظهر والتحالف مع الأعداء وأن من يخالف نصوصها يجني علي نفسه ثمار الخيانة إلا أن اليهود خالفوا تلك الوثيقة فاعتدوا علي المسلمين وتحالفوا مع أعداءهم مما استدعي معاقبتهم فكانت حرب بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وأهل خيبر ممن خالفوا تلك الوثيقة المنظمة لشئون الدولة .
علي المستوى الاجتماعي فان الهجرة النبوية وإقامة دولة بالمدينة جعلها مصدرا للجذب السكاني فكانت دولة المدينة فرصة للرقي والدخول في تجرية دينية واجتماعية وسياسية جديدة لها خطتها في البناء والتعمير حيث اهتمت دولة المدينة بالمجتمع المحلي وتجلي ذلك في بناء المساجد والتوسع بها وإعطاء كل قبيلة وعائلة إذن بالسماح في بناء مسجدا صغيرا للصلاة نظرا لاتساع مساحة المدينة العمرانية حيث ظهرت مسؤولية الدولة تجاه مواطنيها في الاهتمام بكل ما يخص شؤونه الدينية والدنيوية .
لقد عرف العرب بعد الهجرة النبوية دور الدولة الذى ظهر في الاهتمام بتحسين أحوال الناس مجتمعيا بإقامة الاسواق وحفر الآبار وعدم حكرها علي طائفة دون أخري مما ساهم في تحسين أحوال الكثير من المسلمين وانطلقت الدولة والدعوة بعد ذلك نحو محورا جديدا من العالمية والانفتاح نحو السياسية الخارجية بمراسلة ملوك الفرس والروم والبيزنطيين .
إن الهجرة إلي المدينة المنورة كانت أول نقطة لبلورة فكرة القومية العربية فاتسعت فكرة الوطن والدولة لتشمل كل الجزيرة العربية لتتوج مرحلة التمكين للدولة القومية بفتح مكة التي ظلت عقبة في طريق النجاح والانتشار حتي جاء العام الثامن للهجرة ودخلت مكة في تبعية المسلمين مما رسخ في نفوس كل العرب بأنه لا طاقة لهم بمحاربته فها هي قريش ألد أعداءه دخلت في كيان الدولة الجديدة وأصبحت أقرب أقرباءه فماذا بعد القوة والأهل .