موسيقى فلسطينية في الغربة
د. أماني الصيفيصدر مؤخرًا عن الجامعة الأمريكية بالقاهرة كتاب بعنوان "موسيقى فلسطينية في الغربة: أصوات المقاومة" (Palestinian Music in Exile :Voices of Resistance) للباحث والموسيقار الأيرلندي لوِس برهوني. يتناول هذا المقال العديد من النقاط الهامة التي يتطرق إليها الباحث، من خلال تناوله لتاريخ تطور الموسيقى الفلسطينية في سياق اشكاليات التعبير عن الهوية الفلسطينية ومقاومة الاستعمار والنظام الإمبريالي العالمي في دول الشرق الأوسط ، أو ما يطلق عليها الباحث" "الغربة القريبة".
الموسيقي الفلسطينية في الغربة في الشرق الأوسط
يتناول الكتاب "موسيقى فلسطينية في الغربة: أصوات المقاومة" للباحث والموسيقار الأيرلندي لوِس برهوني التغيرات التي طرأت على تقاليد تعالم وممارسة الموسيقى الفلسطينية منذ النكبة في عام 1948 وحتى الوقت الحاضر. ينطلق الكتاب من فلسفة ماركسية واشتراكية ديمقراطية، حيث يسلط الضوء على السياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية المحلية التي أثرت في تشكيل وإعادة تشكيل الموسيقى الفلسطينية. تعكس هذه الموسيقى وعيًا سياسيًا واجتماعيًا يعكس معاناة الفلسطينيين وصمودهم في الغربة الداخلية في فلسطين ودول الجوار في الشرق الأوسط. يتألف الكتاب من مقدمة وسبعة فصول تمتد على ثلاثمائة وسبعة صفحات مستندة إلى بحث ميداني واسع تم تنفيذه في الفترة من عام 2013 حتى 2022. تتناول هذه الدراسة بالنقد العديد من الأيديولوجيات والمفاهيم مثل "القومية والرأسمالية والكوزموبوليتانية" في سياق استعراض ومناقشة مذكرات شخصية لموسيقيين وموسيقيات فلسطينيين من فئات عمرية مختلفة وطبقات اجتماعية ومناطق جغرافية عديدة في منطقة الشرق الأوسط.
من الموسيقي الكوزموليتانية إلى الموسيقي الهجين
يبدأ الكتاب بتحليل المناخ الثقافي الفلسطيني في الكويت بعد النكبة، حيث استقرت فيها فئة كبيرة من النخبة المثقفة الفلسطينية. يتم ذلك من خلال استعراض ذكريات الطفولة للمغنية الفلسطينية ريم كيلاني في الكويت، والتي تسلط الضوء على علاقتها بالتراث والهوية الفلسطينية في فترة لم يكن فيها تعارض بين الموسيقى الكوزموبوليتانية" الغربية" والهوية قبل التحولات الثقافية التي هيمن عليه حس قومي مقاوم يمزج بين الحداثة الغربية والمقاومة مستخدمًا الآلات الغربية لعزف أغان تراثية. في سياق مذكرات الكيلاني يشير الكتاب إلى النهضة التي قادتها الطبقة الفلسطينية العاملة في الكويت، والتي كانت تمثل خمس سكان الكويت في سبعينيات القرن الماضي وما تعرض له الفلسطينيون من تهجير جماعي وتعذيب وقتل في الكويت بحجة دعم قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لغزوالعراق في الفترة من 1990 إلى 1991. هنا يذكرنا الكاتب بأثار إتفاقية أوسلوعلى اللاجئين الفلسطنين من جهة،ويدفعنا للتساؤل عن معنى "الكوزموبوليتانية" أو "القرية العالمية" التي تم الترويج لهافي الموسيقى، بينما فقدت معناها على مستوى تطبيق القوانين والأخلاقيات العالمية التي تضمن العدالة للجميع،إذ تتجسد هذه الأزمة في حالة اللاجئين الفلسطنيين الذين أصبحوا لاجئين للمرة الثانية أو الثالثة، وفي رحلة اللجوء يعيشون بتعبير إدوارد سعيد في مواطنة من الدرجة الثانية.
الموسيقي الفلسطنية وتحديات الابتكار بين الثورة والمقاومة
يناقش برهوني مسألة تشكل المجتمع معيارياً، حيث تهيمن وسائل إعلام على الجمهور والرأي من خلال تشكيل الذوق الموسيقي والابتكار في الموسيقى الفلسطينية وتحدى أذواق سائد ة في دول الشرق الأوسط تعكس هيمنة تيارات ثقافية وموسيقية ومتجذرة في حدود جغرافية واقتصادية وأيدلوجيات سياسية. يناقش الكاتب تطوير لهجات موسيقية اجتماعية متعددة في مخيمات اللجوء المختلفة في بلاد الشام .شملت هذه التجارب أحمد الخطيب، عازف العود الذي ولد في مخيم اللاجئين في إربد، وطارق صالحية، عازف الغيتار الشرقي الذي ولد في دمشق، وثلاثة عازفين شباب على القربة وهم زياد حبوس علي ومصطفى دخلول وبهاء جمعة، الذين ولدوا في مخيم برج الشمالي في لبنان.فمثلا تسليط تجربة عازف العود أحمد الخطيب الضوء على تلقي تأثير المدرسة الموسيقية العراقية على أسلوب الموسيقي في فلسطين حيث هيمن تأثير التلفزيون المصري والسوري على الموسيقى. أما في الأردن في إربد وفي القاعات المغلقة وجد أحمد قبولًا لأسلوبه الموسيقي المبتكر، وتشجيعًا، وجمهورًا بآذان نقدية. ويرى أحمد أنه هذا يعود لكون العديد من الشعراء الناشطين مرتبطين إما بحركة الجمالية، المعروفة بتجميع التقدميات القومية العربية مع التراث الإسلامي، أو بالاتجاه الشعري الحر المرتبط بالماركسية، الذي يسعى للتحرر من قيود بالاضافة لقرب العراق جغرافيًا من أردن بينما هيمن التليفزيون المصري والسوري في فلسطين وساهما في تشكيل المسارات الموسيقية. يرفض أحمد رؤية "المقام " الموسيقي كـ "متحف ويرى أنه " يجب أن تكون تقاليد المقام "ديناميكية ونقدية قدر الإمكان. بالطبع، يجب عليك العودة وتعلم الشكل والهيكل والمفردات ولكنني لا أريد للناس أن يعودوا في الزمن موسيقيًا".( ص. 68).
القربة الإنجليزية والمقاومة
في لبنان، استخدم الفلسطينيون العازفون الشباب القربة التي تعود لمخلفات المستعمر البريطاني لعزف الموسيقى التقليدية في الأعراس. أصبحت هذه الآلة وسيلة مهمة لنقل التراث الفلسطيني ومقاومة الاحتلال. يطوع الموسيقيون الفلسطينيون آلات المستعمر لمقاومته وأن بدوا أنهم يقلدونه(85). ويرى الكاتب أن التحديات في الابتكار في اللهجات الموسيقية- حيث يحاول الموسيقيون/ الموسيقيات دمج الأصالة والتراث مع التجديد ومقاومة الاستعمار الإمبريالي- يرافقه مقاومة ظروف اللجوء الاقتصادية والسياسية المختلفة في بلاد الشام .ترصد الشهادات للاجئيين الفلسطنين في لبنان العنصرية والتمييز ضد الفلسطنيين مما أدي إلى ضيق العيش. أما في الأردن، والذي يعتبر مركز اللجوء الفلسطيني قمعت السلطات للنشاط الفلسطيني المقاوم فتم تقييد التجمعات الموسيقية المقاومة للاحتلال. واختلف الوضع سوريا حيث أتيحت للموسيقيين الفلسطينية مساحة أكبر للعمل والحضور في المجال الثقافي. تجربة عازف الجيتار الشرقي طارق صالحية توضح حضور الهوية الفلسطينية والسماح بالتنقل دون تمييز رغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي واجهها الفلسطينيون في سوريا، خاصة بعد عام 2011 . مع ذلك تغيب الإشارة في الكتاب لوضع للموسيقيين/ الموسيقيات الفلسطينين المعادين للنظام والقمع والفساد في سوريا قبل وبعد عام 2011.
تامر أبو غزالة : أهرامات الموسيقى والمقاومة
يتطرق النص إلى تجربة الموسيقي والملحن والمغني تامر أبوغزالة في القاهرة قبل وبعد ثورة 2011، حيث يتعامل مع مفهوم "التجريب في الموسيقى" وأهمية "التكرار الموسيقي". يتم استكشاف مفاهيم الاستمرار والتذكر والتجديد في المجالات الثقافية والسياسية من خلال تساؤلات حول معنى الحداثة والتعليم الموسيقي والموسيقى السائدة في مصر والدول العربية، وكيف تأثرت هذه المفاهيم بالنخبة الإمبريالية الديكتاتورية منذ القرن التاسع عشر متجاهلة أشكال أخرى متعددة من الموسيقى تعبر عن فئات واسعة مهمشة في المجتمعات العربية " الأزمة حول موسيقى المهرجانات في مصر مؤخرا مثالا" .في موسيقى أبو غزالة كما في اللجهات الموسيقة المتنوعة المذكورة أعلاه يصبح التنوع قيمة في حد ذاته طرحًا لمشاكل من حيث السلطة، والهيمنة والامبريالية الغربية ، ورغم ذلك وفي السياق نفسه، يتم تناول أهمية التكرار الموسيقي في سياق المقاومة الفلسطينية، حيث يعتبر الناقد الفلسطيني إدوارد سعيد أن التكرار يساهم في ترسيخ الوجود الفلسطيني ليقاوم عمليات الطمس والتجاوز العمد للتاريخ والوجود الفلسطيني.
المرأة الفلسطينية :الموسيقى والفرح والمقاومة
يؤكد الكتاب أيضًا على دور المرأة في تطوير الموسيقى والصمود في فلسطين. فقد قادت نساء فلسطينيات بارزات نشاطات مقاومة للاحتلال مثل عضو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الناشطة " ليلى خالد "( 1944-)، وغيرها من الكثيرات اللواتي أنشئن الجمعيات ونظمن الأنشطة المقاومة، وكان لهن دور في التجديد الموسيقى سواء من خلال العزف المبتكر الذي مزج الموسيقى الطربية بالوطنية والتراثية، ليتحدين بعزفهن وبحضورهن في مجالات موسيقية واجتماعية تعتبر مخصصة للرجال. ونذكر هنا مثلا العازفات هدي عصفور وريم عنبر ووالمطربة روان عكاشة من بين كثيرات. تحدت المرأة الفلسطينية الطبقية والقيم الذكورية، ولم تقتصر مشاركتها على العزف فحسب، بل أصبحت ناقلة للتاريخ من خلال نقل الأغاني التراثية الوطنية للأجيال القادمة. ويرى الكاتب أن هذا الحضور للمرأة غالبًا ما يتم تجاهله أو تزييفه من قبل الإعلام الغربي الذي يصور المرأة الفلسطينية بصورة نمطية كامرأة مسلمة مستسلمة أو مقموعة من قوى دينية سياسية متشددة ، متجاهلًا الطبقية والوضع السياسي والاقتصادي الذي تعانيه النساء بسبب الاحتلال والتهجير والتدمير للزرع والحجر وكذلك الحصار،ولا يستثني دور الإعلام العربي الذي كثيرًا ما لايستقصي الحقائق وراء ظروف تتسبب في ترسيخ صورة النمطية للمرأة الفلسطينية العربية في الإغلام الغربي.
موسيقي عالمية من الأسفل
وفي الفصل الأخير، يسلط الكتاب الضوء على تجارب مجموعة من الشباب الموسيقيين والسمعة من الفلسطينيين العاديين في إسطنبول، والعنصرية التي يواجهونها العرب هناك رغم الزعم بالدعم الرسمي للقضية الفلسطينية. وتساهم هذه العنصرية في صعوبة الوضع الاقتصادي للموسيقيين الفلسطينيين اللاجئين. ومع ذلك، يختتم الكتاب بتجربة تجمع الشباب من الشرق الأوسط ويتضامنون بمشاركة مقومات العيش، كما يتضامنون بالغناء والعزف لمواجهة ظروفهم كمهمشين في مجتمع رأسمالي نيوليبرالي. يراه الكاتب مترسخًا وقائمًا على وعي ثقافي وسياسي من قاعدة المجتمع، أملا في تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية، والتي يعتبرها تبدأ بتحرير فلسطين والمنطقة من الإمبريالية الغربية. وبذلك يقدم برهوني في هذا الكتاب تفسيرًا مبتكرًا للموسيقى الفلسطينية المقاومة بعد النكبة. يرى أنه ابتداءً من عام 1948، انخرط الموسيقيون والموسيقيات في تعلم الموسيقى وأدائها بطرق متنوعة على مستويات سياسية واقتصادية وثقافية، مع تجاوز الموسيقى للحدود الجغرافية بدون مؤسسات ومعاهد تعليمية تنتجها أو إعلام عابر للحدود مهيمن يمثلها. فهل يمكن اعتبارها موسيقى عالمية تعكس تجارب وآمال فئات عريضة من المهمشين أعتبروا على هامش الحداثة الرأسمالية الامبريالية؟
وباختصار يقدم هذا الكتاب نظرة شاملة وعميقة لتحديات تعلم وممارسة الموسيقى في المنطقة العربية في سياق تسليط الضوء على تأثير الأحداث السياسية والاجتماعية المحلية والعالمية على هذا المجال. بالإضافة لذلك، يتناول الكتاب بالنقد والمسائلة قيم ونظريات فلسفية وسياسية متعددة، مما يجعل هذا الكتاب مصدرًا قيمًا للمهتمين بالموسيقى والثقافة العربية وكذلك المشتغلين بنظريات الحداثة في الأدب والفن وفي تخصصات أخرى مثل علم الاجتماع والفلسفة.