الجمعة 20 سبتمبر 2024 01:47 صـ 15 ربيع أول 1446هـ

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

تقارير وقضايا

رضوى رحيم تكتب : مين صبحي ؟! .. إهداء إلي أبي الفعلي و أبي الروحي

"بابا، حضرتك فاكر أول مرة رحنا فيها المسرح سوا؟" سألته بحذر، وأنا أراقب تلك التعبيرات التي بدأت تتسلل إلي وجهه الحبيب الذي ترك عليه الزمن خطوط من الحكمة زادته عمقا و دفئا .


كانت عيناه الكحيلتان تحملان نظرة حائرة للحظة، وكأن السؤال أعاده إلى زاوية بعيدة داخل عقله، تلك الزاوية التي يتجنبها ، شعرت بالخوف في تلك اللحظة من الإجابة التي قد تأتي و تكون قاسية كالحقيقة التي لا مفر منها ، كنت اخشي ان يقول (لا ) فأحرف بسيطة كهذة تعني ان الزمان قد نجح في سرقة جزء غال من ذاكرتنا المشتركة .. عمرا من الحب و الصداقة بيني و بين ابي .


لم يجيب مباشرة، بل غيّر الموضوع بسرعة، وكأنه يحاول قتل غول النسيان الذي غزا للاسف مساحات ومسح عمديا مشاهد من عقل ابي .


فنان بحجم الأحلام
شعرت بقلبي يغرق في بحر من الذكريات، فانسابت أفكاري بلا وعي إلى تلك اللحظة الأولى، إلى ذلك اليوم الذي كنت فيه طفلة صغيرة لم يتجاوز عمري الأربع سنوات، في نهاية الثمانينات .


في ذلك اليوم، كان كل شيء يبدو كبيرًا في عينيّ: المسرح، الجمهور، والحدث نفسه. بابا كان بطل حياتي، يعرف كيف يجعل من كل يوم عيدًا، وكيف يرسم الابتسامة على وجه طفلة استثنائية في هذا السن لم تكن تبهرها الألعاب بينما تفرح بمجلة او بكتاب .


رغم أنني كنت مريضة، مؤشر حرارتي التي يلامس الأربعين، إلا أنه أصر على أن يأخذني إلى المسرح لأول مرة، ليحقق لي حلمًا صغيرًا كان يسكن قلبي.
محمد صبحي: الفراشة التي حلّقت في طفولتي
وحين وصلنا إلى المسرح، كان هناك نجم يتألق على الخشبة، نجم جعل عينيّ تلمعان بالحيرة والدهشة و الفرحة إني أراه كنت أظنه من عالم آخر.


كان النجم محمد صبحي في مسرحية( وجهة نظر ). أتذكر كيف كان يتحرك على المسرح بخفة الفراشة، لكنه كان في الوقت ذاته ثابتًا كالطود الشامخ.
في تلك اللحظة، طرحت سؤال علي أبي (أين بقية أشكاله ؟!)ضحك بابا و قال :أي أشكال ؟ قلت سنبل و عم أيوب و مدام عطيات - كنت احفظ مسرحية الجوكر و الهمجي عن ظهر قلب - و أضحك كل مرة كأنني لإول مرة أراهما ، قال بابا : أنتظري بعد العرض سنقابلهم جميعا و بالفعل اخذت في هذا اليوم اول صورة تذكارية مع فناني المفضل .


بابا ونيس عمر من التربية
عام بعد عام أسير علي درب العمر اكبر و يرافقني مسلسل يوميات ونيس دليل الآباء في هذا الوقت لتربية الابناء ، و كلما كنت ازداد وعيا ازداد حيرة هل هو شارلي شابلن المصري بأسلوبه الكوميدي و تعبيرات جسده بنقده السياسي و الاجتماعي الجريء الصامت و الصادم أم انه نجيب الريحاني بعمقه و قوته الكامنة
خلف الضحك. لكنه كان في كل مرة يظهر بشكل مختلف، بأداء مختلف، وكأن حضوره يتجدد مع كل عرض كل عام كان ابي يهديني كتاب و الاستاذ يهديني عملا ثريا و ثقيلا يفتح آفاقا جديدة حتي لو العمل كان ليس بجديد لكن كل مرة أراه بشكل مختلف ، فمن لعبة الست و كارمن و سكة السلامة للوعي السياسي بالعربي الفصيح و ماما امريكا فارس بلا جواد و ملح الارض من ذلك الوقت أدركت أن هذا المثقف الكبير و الفنان الواسع الإدراك لمسؤلياته أصبح جزء من قصتي و تكويني قاسما مشتركا في الذكريات التي تجمعني بأبي .


كنت أراهما وجهان لعملة واحدة و أتعجب من الإيثار و التضحية عند كل منهم أبي قرر أن يكون هدفه أن يبني ثلاث اهرامات -أنا و اخوتي -كما كان يقول و فضل ذلك علي الثراء رافضا التحايل علي مبادئه لجمع الأموال و هكذا كان صبحي عندما كان قراره الجريء ببناء مدينة سمبل و مسرحها لجعلها مشروع فني للأجيال و اجيال دون النظر لكلمة سخيفة كانت مفتاح البعض للسطحية و التفاهة (الجمهور عايز كدة ) و مفتاح الثراء أيضا .


و عندما بدأت الحياة العملية تأخذ العصفورة الصغيرة لتطير بعيدا عن العش كان لقائي بالاستاذ في محيط عملي يشعرني بالفخر و السعادة فها هي التربية قد افلحت ها انا اقابله بصفتي المهنية كأعلامية و لست فقط المعجبة الصغيرة و ان كانت بالفعل ستظل موجودة و احرص علي ارضاها داخلي بالتقاط صورة جديدة في كل مرة .


صبحي: نقش الزمن في وجدان لا ينسى
وعندما أحتار والدي و سألني في النهاية بخجل : "مين صبحي؟" أجدني أقول بكل صدق: "محمد صبحي هو أثر الفراشة في حياتي ووالد لكل ابناء جيلي ، الوالد الذي شكل وعيي وجداني ، هو من علمني عبر فنونه عن القيم والأخلاق، وعن الحب للوطن والانتماء، هو من غرس في قلبي تلك البذور التي تنمو اليوم لتكون شجرة الإبداع والوعي.


رموز تصنع أجيالًا وتعيد بناء الذاكرة
نحن اليوم بحاجة إلى محمد صبحي، ليس فقط على خشبة المسرح، بل في كل مجالات حياتنا. نحتاجه ليقود الأجيال الجديدة، ليكون مرشدهم ومعلمهم. نحتاج إلى محمد صبحي في الإعلام، في المدارس، في كل ركن من أركان المجتمع. نحتاج لمن يرسخ القيم ويعيد للوطنيّة معناها العميق.
*الفن كشعلة: منارات لا تنطفئ في ليل الحياة**
أدعموا الفنان والمثقف ليعمل، شجعوا محمد صبحي ليبدع، لأننا بلا إبداع وبلا فن هادف، سنضيع!
الأجيال القادمة تستحق أن تجد من يرشدها ويقودها، أن تجد من يغرس فيها القيم التي لا يمكن أن تموت ، فالفنان، حينما يُمنح الفرصة ليعمل بحرية ومسؤولية، يستطيع أن يشكل وعياً جماعياً، وأن يحافظ على هويتنا كأمة.


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فليزرعها." دعونا نقاوم التشويه والطمس بالفكر والثقافة، ولنحافظ على هذه النماذج المضيئة لتسلم رسالتها للأجيال القادمة.
شكرا الأستاذ الأب محمد صبحي و شكرا لكل محمد صبحي .

الفنان محمد صبحي وجهة نظر مسرحية محمد صبحي فارس بلا جواد