الخميس 16 يناير 2025 11:49 مـ 16 رجب 1446هـ

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

آراء وكتاب

الخبير التربوي  الدكتور ناصر الجندي

التربية كأداة لبناء الولاء الوطني ورفض التطرف: كيف يمكن للتعليم أن يعيد تشكيل قيم المجتمع من الداخل؟

الخبير التربوى الدكتور ناصر الجندى

في عالمنا المعاصر، حيث تتسارع الأحداث السياسية والاجتماعية وتتزايد الدعوات للتطرف في بعض الأوساط، يصبح من الضروري التفكير في كيفية إعادة تشكيل قيم المجتمع من خلال التربية. فما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه التربية في تعزيز الولاء الوطني والتصدي للأفكار المتطرفة؟ هل التربية مجرد وسيلة لنقل المعرفة الأكاديمية، أم أنها أداة حيوية لبناء القيم المجتمعية وتعزيز الانتماء للمجتمع والوطن؟ هذه الأسئلة تمثل جوهر هذا المقال، الذي سيطرح فكرة أن التربية هي أداة أساسية ليس فقط لتعليم المهارات الأكاديمية، بل لإرساء القيم الوطنية وتعزيز التسامح، فضلاً عن دورها المحوري في مكافحة التطرف الفكري الذي يهدد النسيج المجتمعي.

سوف يتم في هذا المقال عرض وجهة نظر مؤمنة بأهمية التربية كوسيلة لاستئصال الفكر المتطرف من جذوره عبر إعادة تشكيل الوعي الاجتماعي وتعزيز الولاء الوطني لدى الشباب، مما يسهم في بناء مجتمع متماسك ومستقر.

التربية كأداة لتشكيل القيم الوطنية:

اقرأ أيضاً

عندما نتحدث عن الولاء الوطني، فإننا لا نعني مجرد الانتماء الجغرافي للوطن، بل نعني الالتزام القوي بالمصلحة الوطنية والعمل من أجل تعزيز استقراره وتقدمه. "الولاء الوطني هو شعور يعبر عن الوحدة والتضامن مع الوطن في السراء والضراء" (Haque, 2014). ومن هنا، لا بد من أن تلعب التربية الوطنية دورًا محوريًا في ترسيخ هذه القيمة لدى الجيل الجديد.

أحد الأساليب الفعّالة في ترسيخ الولاء الوطني هو من خلال المناهج الدراسية التي تركز على تاريخ الوطن وقيمه العميقة. تاريخنا مليء بالملاحم التي أظهرت التضحيات من أجل الحفاظ على الهوية الوطنية، ويجب أن يكون هذا التاريخ جزءًا لا يتجزأ من المناهج التعليمية في المدارس. كما يذهب الكاتب إدوارد سعيد في قوله: "التاريخ هو الأساس الذي يمكن أن يبني عليه الفرد هويته"، ومن خلال تسليط الضوء على الإنجازات الوطنية، يمكن للطلاب أن يتعرفوا على دورهم المستقبلي في بناء وطنهم.

وفي سياق آخر، يمكن أن تكون الرموز الوطنية مثل العلم والنشيد الوطني هي نقاط التواصل بين الأجيال، وهي بمثابة الهوية الجماعية التي يجب أن يحتفظ بها كل مواطن كجزء من انتمائه لوطنه. إذا تم إدراج هذه الرموز في المناهج التعليمية بشكل مستمر، فإنها ستساعد على تعزيز الولاء الوطني وتعميق الفهم لدى الشباب لمعنى المواطنة.

التربية والتسامح الاجتماعي:

التربية لا تقتصر فقط على بناء الولاء الوطني، بل تمتد لتشمل التسامح الاجتماعي، الذي أصبح ضرورة حتمية في مجتمعاتنا متعددة الثقافات. من خلال غرس قيم التسامح في نفوس الطلاب، يمكن بناء مجتمع متنوع يسوده التعايش السلمي. "التسامح ليس فقط الاعتراف بالاختلافات، بل هو القبول الكامل والاحترام المتبادل بين الثقافات والأديان" (Rothstein, 2009).

يجب على التعليم أن يضع في أولوياته تعزيز الاحترام المتبادل بين أفراد المجتمع، بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية والدينية. إذا تم تعليم الطلاب كيفية التعامل مع الآخرين بمنظور شامل، فإنهم سيكونون قادرين على بناء مجتمع قوي ومتماسك. يعتبر جون ديوي، الفيلسوف الأمريكي المعروف في مجال التعليم، أن "التعليم هو الوسيلة المثلى لبناء جسر بين الثقافات"، لذا فإن المدارس يجب أن تقدم برامج تعليمية تؤكد على الاحترام و التفاهم بين الثقافات المختلفة.

التربية كأداة لمكافحة التطرف الفكري:

في ظل وجود العديد من الأيديولوجيات المتطرفة التي تهدد وحدة المجتمعات، تصبح التربية خط الدفاع الأول ضد هذه الأفكار التي تنمّي الكراهية وتزرع العنف. التربية الفكرية يجب أن تسعى إلى بناء العقل النقدي لدى الشباب، حيث يجب أن يكون لديهم القدرة على التمييز بين الحقائق والشائعات وبين الأفكار المستنيرة والأيديولوجيات الضارة. "إن قدرتنا على فهم المعلومات بشكل نقدي هي وسيلتنا لمكافحة الفكر المتطرف" (Chesney, 2015).

إذا تم تعزيز مهارات التفكير النقدي في المناهج التعليمية، سيصبح لدى الطلاب القدرة على تحليل الأفكار بدقة، وبالتالي سيشعرون بالقدرة على رفض الأفكار المتطرفة التي قد تحاول التأثير عليهم. لا ينبغي أن ننسى أن التطرف الفكري غالبًا ما يرتبط بجهل الفرد وفقدان الوعي العميق بالقيم الإنسانية، لذلك من المهم أن تزود المدرسة الطلاب بالأدوات الفكرية التي تمكنهم من تقييم الأمور بشكل صحيح.

التربية والتعليم في مواجهة التحديات المجتمعية:

إلى جانب مواجهة التطرف الفكري، تأتي التحديات الاجتماعية التي يمكن أن تساهم في تعزيز مشاعر الإحباط والتهميش بين الشباب، مثل البطالة و الفقر. يمكن أن تساهم التربية في الحد من هذه الظواهر عن طريق تمكين الشباب وتعليمهم المهارات اللازمة للمشاركة الفعّالة في المجتمع.

في هذا السياق، يمكن أن تكون المشاريع المجتمعية والمبادرات التطوعية أداة فعالة في تعزيز الولاء الوطني. على سبيل المثال، يمكن للمدارس تشجيع الطلاب على المشاركة في المشاريع المجتمعية التي تعزز من مشاركة الأفراد في القضايا التي تهم المجتمع ككل، مثل المبادرات البيئية أو المشاريع الخيرية. وفقًا لـ "كينيث جينينغز" (2016): "الفرد الذي يشعر أنه يمكنه التأثير في مجتمعه يكون أكثر ولاءً له، ويعتبر نفسه جزءًا من المشروع الوطني".

التربية في عصر العولمة:

عصر العولمة قد جلب تحديات جديدة للأنظمة التعليمية، حيث أصبح الشباب يتعرضون للعديد من الأفكار التي قد تؤدي بهم إلى التطرف الفكري، ويأتي هذا من خلال الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. التربية الرقمية هي حاجة ملحة اليوم. يجب أن تعلم المدارس الطلاب كيفية التفاعل الواعي مع المعلومات المنتشرة عبر الإنترنت وكيفية تمييز الأخبار الكاذبة أو التحريضية.

في هذا الصدد، يشير جون شيفرز (2018) إلى أن "التكنولوجيا يجب أن تُستخدم كأداة لتعزيز الفكر النقدي، وليس لتضليل العقول"، وهذا يتطلب من المدارس تزويد الطلاب بمهارات التفكير النقدي الرقمي لتجنب الوقوع في فخ الأيديولوجيات المتطرفة التي قد تنتشر على الإنترنت.

دور المعلمين كقدوة في زرع الولاء الوطني:

المعلم ليس مجرد ناقل للمعرفة، بل هو قدوة يجب أن تمثل القيم الوطنية و الأخلاقية في سلوكه اليومي. المعلمون هم الحلقة الأساسية في عملية زرع الولاء الوطني لدى الطلاب، ويمكنهم التأثير بشكل كبير في تشكيل مفاهيم الانتماء والوطنية في نفوسهم.

أدركت الكثير من الأنظمة التعليمية في العالم أهمية أن يكون المعلم قدوة حية، وليس فقط من خلال تدريس المناهج. فإذا شعر الطلاب بأن المعلمين يطبقون القيم الوطنية في سلوكهم الشخصي، فإنهم سينقلون هذه القيم إلى حياتهم اليومية.

الخلاصة:

من خلال هذا المقال، أردت تسليط الضوء على دور التربية في تعزيز الولاء الوطني و رفض التطرف الفكري من خلال تغيير جذري في أساليب التعليم وابتكار طرق جديدة للتأثير في الأجيال القادمة. التربية، كما قدمنا، ليست مجرد نقل للمعرفة الأكاديمية التقليدية، بل هي أداة يمكنها أن تكون حجر الأساس لبناء مجتمعات قوية قائمة على قيم المواطنة و التسامح. من خلال المناهج التعليمية التي تركز على تعزيز الوعي الوطني وتنمية العقل النقدي لدى الشباب، يمكن أن نؤسس لقاعدة صلبة من الأفراد الواعيين الذين يستطيعون مقاومة الأفكار المتطرفة والتحريضية.

وجهة نظري واضحة في أن التعليم يجب أن يُعد جيلًا قادرًا على التفكير بشكل مستقل، وأن يكون قادرًا على تحديد موقفه من قضايا التطرف والفكر المتشدد. مع التعليم الصحيح، يُمكن للطلاب أن يكونوا جزءًا من مجتمع متماسك بعيدًا عن التأثيرات السلبية من الإنترنت ومن وسائل الإعلام التي قد تعرض لهم أيديولوجيات متطرفة.

إضافة إلى ذلك، أؤمن بأن المعلم يجب أن يكون نموذجًا حيًا لما يتعلمه الطلاب في المدرسة. دور المعلم ليس فقط في نقل المواد الدراسية، بل في غرس القيم الوطنية التي تساهم في بناء مجتمع قوي يُعلي من شأن الانتماء و الولاء للوطن. المعلم هو من يصنع القيم ويزرعها في نفوس الطلاب، ويجب أن يكون هو الشخص الذي يطبق هذه القيم عمليًا في كل تصرفاته وأفعاله.

من هذا المنطلق، يجب أن تُسخّر التربية كأداة رئيسية في نشر الوعي و تشكيل القيم التي تقود إلى مستقبل أفضل لا مكان فيه للأيديولوجيات المتطرفة. التربية ليست مجرد تعليم، بل هي إعادة بناء لوعي المجتمع من خلال تأسيس القيم التي تضمن العيش المشترك بسلام وانسجام.

المراجع:

  • Chesney, R. (2015). Fighting extremism through education. Journal of Peace Studies, 20(2), 45-60.
  • Haque, A. (2014). National loyalty and citizenship education: A critical perspective. Educational Philosophy and Theory, 46(5), 565-579.
  • Rothstein, R. (2009). The social foundations of tolerance: Education's role in promoting acceptance of diversity. Diversity and Democracy, 12(1), 1-6.
  • Shavers, J. (2018). Digital literacy in the age of misinformation. Journal of Information Technology, 33(4), 240-255.
  • Jennings, K. (2016). Community engagement and youth participation: Empowering the next generation. Journal of Social Work, 32(3), 210-220.
الخبير التربوي الدكتور ناصر الجندي الولاء الوطني ورفض التطرف التعليم المجتمع وزارة التعليم القاهرة الميدان