الخميس 30 يناير 2025 07:25 مـ 30 رجب 1446هـ

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

آراء وكتاب

عيد الربيع في الثقافة الصينية :المعني والمدلول

بقلم : أ.د .حسن رجب

أستاذ الدراسات الصينية ومدير معهد كونفوشيوس جامعة قناة السويس

يوم الأربعاء 29 يناير 2025 يمثل بداية عيد الربيع فى الصين وهوأكبر الأعياد التقليدية ويعد عيد الربيع أحد الركائز الثقافية للمجتمع الصيني، حيث يتمسك الصينيون بتقاليده العريقة التي توارثوها عبر الأجيال. هذه التقاليد تحمل في طياتها قيمًا عميقة مثل أهمية الأسرة، احترام الأسلاف، والاحتفاء بالحياة والبدايات الجديدة.

نشأ هذا العيد في العصور الزراعية القديمة من أربعة آلاف عام ، حيث كان يعتمد الاقتصاد والحياة اليومية بشكل رئيسي على الزراعة في ذلك الوقت، وكان الاحتفال بعيد الربيع يُعتبر طقسًا دينيًا وروحيًا يُقام في نهاية الشتاء وبداية الربيع، للاحتفاء بنهاية موسم البرد والترحيب بموسم النمو والحصاد.

ويمثل العيد بداية السنة القمرية ودوران الأبراج الصينية التى تمتد على مدار 12 عامًا ويمثل منها حيوانًا مختلفًا وتتبع هذا الترتيب الجرذ ، الثور، النمر، الأرنب ،التنين، الثعبان ،الحصان، الماعز، القرد، الديك، الكلب ،الخنزير.

وهذا العام هو عام الثعبان فى الأبراج الصينية حيث يرتبط الثعبان بصفات منها الحكمة والسحر والأناقة والتحول وتقول الأساطير الصينية بأن المولودين فى هذا البرج يتمتعون بالحكمة والحنكة العالية وحسن التصرف فى الأمور الصعبة .

مع مرور الوقت، بدأ عيد الربيع يأخذ طابعًا اجتماعيًا وثقافيًا أكثر من كونه دينيًا. حيث أصبح الاحتفال بالعام القمري الجديد تقليدًا واسع الانتشار بين جميع طبقات المجتمع في عهد أسرة هان (202 ق.م - 220 م). وقد تميزت تلك الفترة بإضافة عناصر جديدة للاحتفال، مثل استخدام الألعاب النارية واللون الأحمر كرموز لطرد الأرواح الشريرة.

وفي خلال عصور الأسر الإمبراطورية اللاحقة، تطورت طقوس عيد الربيع بشكل كبير. في عهد أسرة تانغ (618-907 م)، أُضيفت عناصر ثقافية مثل رقصات التنين والأسد، التي لا تزال تُمارس حتى اليوم. أما في عهد أسرة سونغ (960-1279 م)، فقد تطورت مظاهر الاحتفال لتشمل تنظيم الأسواق الليلية ومعارض الفوانيس.

يُعتبر عيد الربيع تقاطعًا بين القديم والجديد، حيث يرمز لنهاية دورة زمنية وبداية أخرى. ومن هنا جاء الاحتفاء بالنظافة وترتيب المنازل قبل العيد كطقس رمزي لطرد الماضي واستقبال المستقبل بأمل وحيوية. هذه الدلالة الزمنية تُبرز قيمة التجديد في الثقافة الصينية.

يُعد عيد الربيع مناسبة سنوية يُطلق عليها اسم "الهجرة الكبرى"، حيث يعود ملايين الصينيين إلى مسقط رأسهم للاحتفال مع أسرهم. هذه العودة الجماعية لا تقتصر على الأفراد العاملين في المدن الكبرى، بل تشمل أيضًا الطلاب المغتربين والمغتربين في الخارج. تجسد هذه الظاهرة القيمة العظيمة التي تمنحها الثقافة الصينية للأسرة باعتبارها حجر الأساس للمجتمع.

يبدأ الاحتفال يبدأ بوجبة عائلية تُعرف بـ"وجبة لم الشمل"، حيث تُقدَّم أطباق رمزية مثل الزلابية التي تُشبه العملات الذهبية، والتي تُعبر عن الأمل في تحقيق الثروة والسعادة. إلى جانب الزلابية، يتم تقديم أطعمة أخرى تحمل معانٍ رمزية، مثل الأسماك التي تُشير إلى الوفرة، وكعك الأرز الدبق الذي يُمثل الترابط الأسري.

تتجلى روح التكاتف العائلي بشكل واضح من خلال تقاليد مثل إعداد الطعام معًا، حيث يشارك الجميع في تحضير الأطباق التقليدية. كما يتم تبادل الهدايا، خاصة المظاريف الحمراء (红包-hong bao)، التي تحتوي على أموال كرمز للحظ والسعادة. تُعطى هذه المظاريف من كبار السن إلى الشباب، كإشارة على الدعم والبركة للأجيال القادمة.

بالإضافة إلى ذلك، تُعد زيارة الأقارب نشاطًا مهمًا خلال فترة العيد. تحمل هذه الزيارات معنى خاصًا يتمثل في تعزيز الروابط العائلية والاجتماعية، وتبادل التهاني والأمنيات بالعام الجديد.

وتعكس أجواء العيد الاحتفالية قيمًا هامة مثل الاحترام المتبادل والدفء الاجتماعي. يتم تجديد العلاقات القديمة وتعزيزها من خلال الأنشطة المشتركة. تُمارس أنشطة ثقافية تقليدية مثل كتابة الحروف الصينية الجميلة، والتي تُعبر عن أماني العام الجديد، وتعليقها على الأبواب والنوافذ.

ويشارك الأطفال والكبار على حد سواء في إعداد زينة العيد، مثل الفوانيس الحمراء التي تزين الشوارع والمنازل. حيث يُعتبر هذا النشاط فرصة لتعزيز التفاعل بين أفراد الأسرة، مما يُعزز من روح التعاون.

تعتبر الأسرة المحور الأساسي لكل نشاطات عيد الربيع. يتمحور الاحتفال حول قضاء الوقت مع أفراد الأسرة، ومشاركة اللحظات السعيدة، والاحتفاء بالتقاليد التي توارثتها الأجيال. ويظهر هذا التركيز على الأسرة كيف تلعب القيم الأسرية دورًا مركزيًا في تشكيل الهوية الثقافية والاجتماعية للصينيين.

يُعد اللون الأحمر عنصرًا أساسيًا في احتفالات عيد الربيع، حيث يُرمز إلى السعادة والطاقة الإيجابية. تُستخدم الزينات الحمراء والمظاريف التي تحتوي على النقود كهدايا للأطفال والشباب، مما يُعزز الشعور بالأمل والتفاؤل بالعام الجديد. الألعاب النارية والطبول تُضفي جوًا احتفاليًا مليئًا بالحيوية، وتعكس الرغبة في التخلص من الطاقة السلبية.

يختلف الاحتفال بعيد الربيع من منطقة إلى أخرى داخل الصين. ففي الشمال، تُعتبر الفطائر المحشوة "饺子-jiao zi" الطبق الرئيسي، بينما تُعد الكعكات المصنوعة من الأرز شائعة في الجنوب. ولذلك يظهر هذا التنوع كيف يمكن للتقاليد المختلفة أن تتكامل تحت مظلة ثقافة موحدة.

إن الاحتفال بعيد الربيع ليس فرصة للتأمل في الماضي فحسب، بل أيضًا هو دعوة للتفاؤل بالمستقبل، حيث يركز الصينيون على وضع أهداف جديدة للعام القادم، مما يعكس الطابع الديناميكي والمتغير للثقافة الصينية.

يجسد عيد الربيع في الثقافة الصينية قيمًا إنسانية عميقة تتمثل في التجديد، والأمل، والتضامن، حيث يحمل رسالة تجمع بين الماضي والحاضر، وتربط الأجيال عبر القيم المشتركة والاحتفاء بالحياة. من خلال استعراض هذا العيد وأوجه التشابه بينه وبين الأعياد الإسلامية كعيد الأضحى، يمكننا ملاحظة أن الأعياد ليست مناسبات احتفالية فحسب، بل هي أيضًا وسيلة لتعزيز الروابط الاجتماعية والثقافية.

تُظهر الأعياد أن البشرية، رغم اختلافاتها الثقافية، تتشارك في القيم الإنسانية الأساسية مثل حب الأسرة، والاحترام، والكرم. فإن عيد الربيع وعيد الأضحى كلاهما يعبران عن أهمية التقاليد والترابط بين أفراد المجتمع، مما يعزز من روح التفاهم والتآلف بين الثقافات المختلفة

إن الاحتفاء بهذه القيم يُعد دعوة للتأمل في كيفية تحقيق التعايش السلمي والاحترام المتبادل بين الشعوب. حيث تمتد الرسالة التي يحملها عيد الربيع إلى ما هو أبعد من الصين، لتُصبح رمزًا عالميًا للأمل، والتناغم، والبدايات الجديدة. فعلينا أن نستفيد من هذه المناسبات لتعزيز الحوار الثقافي وبناء جسور التفاهم بين الأمم، فإن القيم الإنسانية تجمعنا كافة في مسيرة واحدة نحو مستقبل مشرق..