السبت 1 فبراير 2025 09:53 مـ 2 شعبان 1446هـ

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

آراء وكتاب

الدكتور محمد عبدالعزيز دكتور بجامعة الأزهر الشريف

”حب الوطن ومنع التهجير رؤية شاملة بين القيم الإسلامية والمبادئ الإنسانية”

الوطن ليس مجرد مساحة جغرافية يعيش عليها الإنسان، بل هو مأوى الأرواح والأفئدة، أن حبّ الوطن فطرةٌ وإيمان، وأن الـخُرُوج مِنَ الوَطَن، كنزْعِ الرُّوحِ مِنَ البَدَن؛ وقد تجلى هذا المعنى بكل وضوح في مشهد مليء بالحزن، حينما وقف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على مشارف مكة، يودع وطنه الذي نشأ فيه، وتربى على أرضه، ومشى على ترابه، وينظر إليه نظرة وداع، والشوقُ والحنينُ يملآن جوانبَهُ ﷺ ، ويبكي ويقول: «وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ» فينزل عليه جبريل بقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِی فَرَضَ عَلَیۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لَرَاۤدُّكَ إِلَىٰ مَعَاد﴾ [القصص ٨٥]. ويتحقق وعد الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فيعود إلى مكة فاتحًا منتصرا.
ومع تصاعد وتيرة التهجير القسري والنزوح في العالم اليوم، يبرز الدور المحوري للشريعة الإسلامية التي نهت عن التهجير القسري، وحذرت منه، واعتبرته اعتداءً على البشر، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، قادرًا على إخراج أهلها منها وتهجيرهم، فهم الذين آذوه واضطهدوه، وأخرجوه وأصحابه منها، لكنه صلى الله عليه وسلم عفا عمن ظلمه وسامح من أساء إليه، ووقف بين القوم الذين لم يدركوا قيمة الإنسان العظيم الذين كان يعيش بينهم، قائلا لهم: «مَا تَرَوْنَ أَنِّي صَانِعٌ بِكُمْ؟» قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ قَالَ: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ».
ومع ما ترى من سماحة الإسلام وعفوه، فإن أكثر أمة عانت من التهجير القسري هي الأمة الإسلامية، فلقد عانى المسلمون عبر التاريخ من الإبادة والتهجير على أيدي أعدائهم، حيث شهدت العديد من الفترات والمناطق اعتداءات قاسية تركت آثارًا عميقة. فقد احتل الصليبيون بيت المقدس في القرن الخامس الميلادي، وقاموا بإبادة المسلمين وتهجير من تبقى منهم، ليستوطنوا بلاد الشام ومصر، واستمر هذا الوضع لما يقارب مئتي عام.

ثم اجتاح التتار بغداد وأبادوا سكانها، في حين سقطت الأندلس في يد الصليبيين، الذين قضوا على المسلمين هناك، وهجروهم، وطمسوا حضارة امتدت لثمانية قرون، تميزت بالازدهار والتعايش بين مختلف الطوائف.
وفي فلسطين، قامت العصابات الصهيونية قبل نحو سبعين عامًا بارتكاب المجازر وتهجير السكان المسلمين، والاستيلاء على منازلهم وأراضيهم، لتقيم كيانًا غريبًا في قلب المنطقة الإسلامية.
إن الإسلام يرفض الظلم والاعتداء على حقوق الأفراد والجماعات، ومن أبرز صور هذا الظلم التهجير القسري. وقد شدد الدين الحنيف على ضرورة صيانة حق الإنسان في البقاء بأرضه، حتى اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم من قُتل دفاعا عن ماله أو هله شهيدًا فقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ، أَوْ دُونَ دَمِهِ، أَوْ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» والدفاع عن الأرض التي يعيش فيها الإنسان ويحتمي بها يدخل ضمن الدفاع عن النفس والأهل والمال.
وقد دعا الإسلام إلى ضرورة التضامن مع المظلومين، ونصرتهم، والدفاع عن حقوقهم المشروعة، قال الله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَـٰتِلُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِینَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَاۤءِ وَٱلۡوِلۡدَ ٰ⁠نِ ٱلَّذِینَ یَقُولُونَ رَبَّنَاۤ أَخۡرِجۡنَا مِنۡ هَـٰذِهِ ٱلۡقَرۡیَةِ ٱلظَّالِمِ أَهۡلُهَا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِیࣰّا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِیرًا﴾ [النساء ٧٥] وهذه الآية تبين وجوب الدفاع عن المظلومين ضد أي تهجير أو تهديد يُجبرهم على ترك أوطانهم.
ومع ازدياد النزاعات والحروب التي ينتج عنها تهجير البشر من أوطانهم، تبرُز أهمية التمسك بهذه القيم الإسلامية التي تدعو إلى حماية الإنسان وتكفل حقه في البقاء على أرضه، فعلى الحكومات والمجتمعات أن تعمل جاهدة على رفع الظلم، وضمان استقرار الأوطان وحماية الشعوب من التهجير.
ونحن نثمن الجهد الذي تبذله الدولة المصرية في رفض تهجير الفلسطينين من غزة، ودعمها الكامل للقضية الفلسطينية، وتأكيدها على أن تهجير الفلسطينين يعتبر انتهاكًا صارخا للقانوي الدولي ولحقوق الإنسان، ولاستقرار المنطقة والعالم بأسره، ونسأل الله تعالى أن يرفع عن أهلنا في فلسطين هذا الظلم ويزيح عنهم هذه الغمة، وينتقم من الصهاينة المتجبرين، ويحفظ مصر وبلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

”حب الوطن ومنع التهجير رؤية شاملة بين القيم الإسلامية والمبادئ الإنسانية”