المملكة.. وضيوف الرحمن
محمد يوسف
)وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) صدق الله العظيم .. تقترب من هذه الأيام شعيرة الحج التي تعبر عن اتمام أركان الدين الإسلامي الحنيف .
وتتجه الأبصار إلى أرض الحجاز المملكة العربية السعودية التي تستقبل أكثر من مليوني من ضيوف الرحمن ، ويسخر خادم الحرمين الشريفين جميع إمكانيات ومؤسسات وأموال المملكة في خدمة الحجيج، حيث يشعر بتلك الجهود الرائعة كل من يعيش في هذه البلاد، مواطنا أو مقيما، صغيرا أو كبيرا، رجلا أو امرأة على حد سواء، فجميع المؤسسات الحكومية دون استثناء تشارك في هذا الموسم، والمؤسسات الإعلامية للمملكة تتفرغ لتغطية تفاصيله، وهذا أمر معتاد ومعروف في كل عام، وهو انعكاس للاهتمام الكبير الذي يحظى به على مختلف الأصعدة، ما يعزز ويسهل من أعمال الحج لجميع قاصدي بيت الله الحرام، وهذا مبني على قناعة ويقين بالمسؤولية تجاه ضيوف الرحمن وشعيرة الحج في المملكة.
ومع تطور تقنية المعلومات التي أصبحت هي عمود الخدمات حيث سعت وزارة الحج لتعزيز استخدام التقنية الحديثة في جميع أعمالها وخدماتها، لتعريف حجاج بيت الله الحرام على خدماتها، وتزويدهم بالإرشادات التي تكفل أداءهم الفريضة بكل يسر وراحة واطمئنان، ومن أبرز التطبيقات التي أطلقتها المملكة وقامت على تطويرها تطبيق الخرائط الرقمية وتطبيق «المقصد» الذي يساعد زوار مكة المكرمة على تحديد مواقعهم بدقة داخل أروقة المسجد الحرام ومعرفة طريقهم إلى أي مكان يريدون الذهاب إليه، كما أن تطبيق «مناسكنا» وتطبيق «تروية» الذي يحدد الأماكن ذات الأهمية العامة مثل أقرب المساجد، المطاعم، دورات المياه، مراكز التسوق والبحث عن أقصر طريق ممكن، وتطبيقات أخرى مساندة مثل تطبيق «صحة» وتطبيق «كلنا أمن» وتطبيق «فزعة» وتطبيق «وطني» وغيرها من خدمات تقنية المعلومات، كما أن هناك تطورا مستمرا في هذه الخدمات، حيث أقيم هاكاثون الحج والذي أقيم لأول مرة في المملكة العربية السعودية، وجاء تنظيم هذا الحدث الضخم الذي شارك فيه آلاف المطورين من 51 دولة في العالم، ضمن جهود المملكة العربية السعودية المتواصلة كل عام في خدمة ضيوف الرحمن واغتنامًا للمواهب التقنية الشابّة، التي تبرز ضمنها مشاركة المبرمجين في استكشاف وتطوير تقنيات مواسم الحج.
ولا تدخر السعودية جهداً في محاولة التخفيف على عباد الرحمن لأداء مناسك الله المعظمة ولعلع في مقدمة هذه الخدمات ما يعرف بـ "هاكاثون الحج"، الذي يهدف إلى تجميع العقول التقنية من مختلف دول العالم، بإيجاد حاضنة لابتكاراتهم فيما يخدم ضيوف الرحمن، وتفعيل التقنية بما يخدم حجاج بيت الله، ويزيد من فرص تمتعهم بمزيد من الخدمات والتسهيلات، التي حولت الحج من حالة الإجهاد والتعب للوصول إلى الحرمين الشريفين ولأداء المناسك، إلى موسم لا ينسى، بما يتمتع به الحاج من تسهيلات تجعل يومه بالكامل يصرفه في العبادة والتركيز فيها، ما يجعل هذا الموسم تجربة يتشوق إلى تكرارها المسلم كلما سنحت له الفرصة؛ ليتمتع بمشاهدة بيت الله وضيوفه من كل مكان في هذه الأرض.
وتعلن المملكة السعودية كل عام عن استعداداتها لهذه المناسبة التي يجتمع فيها الملايين من مختلف بقاع الأرض ومن كل دول العالم، ولكل الجنسيات والأعراق واللغات والفئات ينادون ربا واحدا، ويبتغون هدفا واحدا، بنداء واحد، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، حتى يؤدوا شعيرتهم على أكمل وجه، كل ذلك والمسؤولين يضعون أولى الواجبات عليهم لتكرس الجهد وتوفير الإمكانات، في سبيل تمكين الحجاج من أداء الركن الخامس من أركان الإسلام، في راحة ويسر وسهولة رغم الصعوبات وضيق المساحات وكثرة الحجاج .
فيتحول موسم الحج إلى مؤتمر إسلامي عالمي، يمثل تجربة تتحقق فيها مجموعة كبيرة من شعائر العبادة والقيم والأخلاق، ومنها مظاهر المساواة والتواضع، فهذه الشعيرة فيها مجموعة من الدروس العملية التي يشهدها العالم.
ومع توسع العالم في أدوات الاتصال المختلفة، سيجد الجميع أن هذه التجربة تعكس صورة مميزة وإيجابية عن المجتمع المسلم، ولعل تجمع "هاكاثون الحج" واحدة من المظاهر التي تجعل من خدمة ضيوف الرحمن صناعة، يعمل كل من يشارك فيها على أن تكون عملا مؤسسيا مميزا، وخدمات مستدامة مع تطور مستمر.
أما عن الجانب الثقافي أو التقليد العام للمجتمع فيما يتعلق بالحج، فيلخصه مشهد رجل الأمن في أحد مواسم الحج الماضية، الذي قدم حذاءه لامرأة عجوز في مشهد عفوي، تم التقاطه خلسة، وهو صورة ظهرت للعالم، وهناك صور أخرى كثيرة لم تلتقط، ولم تنشرها وسائل التواصل الاجتماعي، قد تكون المعاني فيها أكبر، وهو شاهد على حجم الاهتمام المجتمعي بهذا الموسم؛ حتى أصبحت خدمة ضيوف الرحمن خلقا وسلوكا، وليست وظيفة يؤديها كل من يعمل في خدمة الحجيج، وهي صورة تعكس حجم التضحية والعمل الإنساني الذي يقدمه الموظف في المطار ورجل الأمن والجمارك والقطاع الصحي وشؤون الحرمين والشؤون الإسلامية ووزارة التعليم، وغيرها من المؤسسات الخيرية والاجتماعية، وكل أبناء منطقة مكة وغيرها من المناطق
.
ومما لا شك فيه أن خدمة ضيوف الرحمن تقليد للمجتمع في الجزيرة العربية، منذ أن أمر المولى - جل وعلا - نبينا إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - الناس بالحج، لكن في هذا الزمان - وقد يكون حدث ذلك في بعض العصور - نجد الاهتمام بجميع التفاصيل الخاصة بهذه الشعيرة، وهذا بلا شك اهتمام لم يكن ليحصل بهذا المستوى لولا توفيق رب العباد، ومن بعد ذلك الاهتمام الكبير على المستوى الحكومي، وإخلاص أبناء هذا الوطن، واحتسابهم الأجر من الله في خدمة ضيوف الرحمن. كل المشاريع التي تتوالى في الحرمين الشريفين شاهدة على عناية كبيرة بهذا المكان وبهذه الشعيرة، ما جعل احتياجاتها والخدمات والمشاريع الخاصة بها أولوية لا يشاركها فيها شيء آخر، حتى مع تباين الظروف العامة للاقتصاد الوطني، والتحديات السياسية والأمنية للوطن، ولم تكن هذه الشعيرة في أي ظرف أداة يتم توظيفها سياسيا على أي مستوى، وهذا - بحمد الله - قد يكون أحد أسباب الثقة والتمكن لولاة الأمر في المملكة منذ عهد المؤسس - رحمه الله - إلى يومنا هذا، في ظل حكم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، وبمساندة من ولي عهده الأمير محمد بن سلمان، حفظهما الله.
فالخلاصة، إن موسم الحج شاهد على حجم العناية والاهتمام بهذه الشعيرة في المجتمع، سواء على مستوى القيادة أو الجهات التنفيذية أو المجتمع، وما يميز التطور في خدمة ضيوف الرحمن حاليا أنها تحولت إلى صناعة، كما أنها أصبحت في المجتمع بمختلف مستوياته ثقافة وتقليدا يحرص عليها ويتشرف بها. أسأل الله لكل من شارك في خدمة ضيوف الرحمن التوفيق والسداد، ومضاعفة الأجر والثواب، وأن يبارك الله لهم في جميع شؤونهم.