سيبقى الكتاب الصّديق الوفي للإنسان، فالكتاب ليس مصدراً للمعرفة فقط، بل يتعدى لأكثر من ذلك فهو الصّاحب وقت الأزمات، والكتاب لا يحمل لساناً حقيقياً يحدّثك به إلّا أنّه يحمل ما هو أصدق من اللّسان، فيحمل المعاني الجليلة والمشاعر الصّادقة التّي تغيب عن الكثير.
إنّ غالب النّاس لا يلتفتون إلى المعرفة الالتفات الكامل، ولا يحتفون بالكتاب الاحتفاء الأمثل، فأزهد شيء في زماننا الكتب وما فيها من معرفة، ولك أن تكتشف هذه الحقيقة بنفسك حينما تشاهد المكتبات العامة خالية من القراء، ألا ترى الكثير وقد خلت بيوتهم من الكتب؟! فالمعرفة أصبحت زهيدة، والكتاب بضاعة مزجاة لا يحرص عليها، بل إذا تقاسم ورثة عالم من العلماء تركة والدهم فإنّ مكتبته وبما تحتويه من كتب ومعرفة يزهد فيها الجميع، ويفرون منها فرارهم من الأسد، ويضطرون لبيعها بأبخس الأثمان، وربما الحلّ الأمثل عند بعضهم أن يتبرّعوا بها لجهة علمية مع نفاسة كتبها، وكم وقف الكثيرون على حوادث بيع مكتبات لبعض العلماء بدراهم معدودات وأنا من هؤلاء. وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المعرفة لا يحرص عليها إلّا القليل، وربما يُرجع البعض هذا لأسباب كثيرة من أهمّها: سرعة التّواصل عبر البرامج الحديثة، الأمر الذي أَلْهَى الجميعَ، ليس عن العلم والكتب فحسب، بل عن بعض الواجبات الحياتية اليوميّة، وعلى كلّ، فمهما كان السّبب فإنّه لن يغيّر من الواقع المرير في شيء.
كلّما تقدّم بالإنسان العمر، أو تغيّرتْ حالُه، أو ابتعد عنه الأقارب، أو فارقه الأصحاب فلن يجد صدراً حنوناً بمعنى الكلمة مثلَ الكتاب. لن يشعر مع الكتاب بأيّ غربة حتى لو فارق الأهل والأوطان، ولن يحتاج معه إلى تسلية، أو حاجة أخرة لِيملأ بها الفراغ ؛ إِذِ الكتبُ كفيلة بتحقيق السّعادة للقرّاء؛ ولن يستشعر القارئ هذه السّعادة إلا بعد أن يتذوّق طعم المعرفة وتؤثّر فيه شهوة التعلّق بالكتب؛ فالكتاب ليس ورقاً فحسب بل موسوعة من المعارف، ومجموعة من الأحاسيس والمشاعر. ولقد أدركت بعض أساتذتي كانوا يحثّوننا على أن نتعامل مع الكتب على أنّها تشعر بنا، فنعاملها بلطف كما نعامل الأطفال.
وفي الزّاوية الأخرى يجلس أناسٌ بعيدين كلَّ البعد عن الكتاب بل ربَّما وصلتِ الحال عند بعضهم أن أصْبَحَ الكتاب عدوّاً لهم. في الحقيقة، ليسوا أعداء للكتب بل للعلم والمعرفة أيضًا، حيث إنّهم يحاولون صباحَ مساءَ، وقدرَ إمكانهم، صدّ النّاس عن المعرفة. ومن كان هذا حقيقة أمره، فهو عدوّ لك قبل المعرفة؛ فإنّ الصّديق الحقيقي المحبّ لك من يرشدك إلى العلم ويدلّك على الكتب وإن لم يكن من أهلهما، ودائمًا المحبّ يدلّ النّاس على الخير ولو لم يكن من أهل الخير، فبقاء النّاس على الخير وإن لم يكن من أهل الخير خير من ابتعاد الخير عنه وعن غيره، والمعرفة والكتب من أوجه الخير ومرشدة إلى الخير.