علي باشا مبارك وجُهوده الوطنية
د . على الحسينى
كان أستاذنا الكبير أنيس منصور يفتخر دوماً بموطنه الأصلي (مدينة المنصورة)، ويشيد ويستشهد بها كثيراً في مقالاته، ويذكر أنها "البلد الذي عَرف القراءة والكُتاب أكثر من أي بلدٍ آخر في مصر"، وأنها "عاصمةُ الطب والعلاج"، و" ليس (لها) نظيرٌ في عدد المستشفيات وعدد المرضى من مصر والبلاد العربية ومعاهد البحث، وبها العددُ الكثيرُ من كبار الأطباء"، ونشأ بها "بُناةُ المصانع والقُرى السياحية والأكاديميات".
ومن كبار العلماء التربويين المنتمين لهذه المدينة (عروس النيل): العالم التربوي الكبير علي باشا مبارك، وهو من الأسماء التي كان معجباً بها الأستاذ الكبير أنيس منصور.
ولد هذا التربوي الكبير في قرية "برنبال الجديدة" التابعة لمركز "دكرنس" بمحافظة "الدقهلية" سنة ١٨٢٢م، ولستُ في صدد ترجمته .. لكنني اخترت عدة محطات من حياته أحاول الوقوف عليها.
المحطة الأولى: تَوَلَّى نظارة ديوان المدارس، فاحتاجوا إلى تعليم فئة من الكبار القراءة والحساب والكتابة، واستعانوا بعلي مبارك يرشح لهم معلمين مؤهلين لتعليمهم، وإذا به يرشح نفسه لتعليمهم، ولعمري كيف لكبير وناظر ديوان المدارس أن يعمل معلماً؟! .. فحفظ لنا التاريخ قولته المشهورة:
"وكيف لا أرغب انتهاز فرصة تعليم أبناء الوطن، وبث فوائد العلوم؟! .. فقد كنا مبتدئين نتعلم الهجاء، ثم وصلنا إلى ما وصلنا إليه".
فكَوَّنَ العظيمُ علي مبارك الفريقَ المساعد له، ولم ينصب نفسه مديراً عليهم بل فرداً من أفرادهم، ووضع الخطط الدراسية، وحدد الأهداف المرجوة من العملية التعليمية، واختار بدقة عالية الوسائل التعليمية المساعدة لنجاح خطة الدراسة.
المحطة الثانية: إنشاؤه للمدارس العلمية، ومن ذلك إنشاؤه (مدرسة دار العلوم)، حيث كلفه الخديو إسماعيل عام ١٨٧٢م بإعداد التخطيط الهندسي ووضع المناهج الدراسية والوسائل التعليمية، واختيار العلماء والأساتذة المناسبين للتدريس.
وقد تميزت المدرسة بإخراج جيل من معلمي اللغة العربية، إضافة إلى إصداره مجلة (روضة المدارس) لنشر الثقافة والمعرفة، وإحياء اللغة العربية وعلومها.
المحطة الثالثة: لم يكتف علي باشا مبارك بالجهد المبذول في تأسيس المدارس التربوية، بل تعدى ذلك إلى القيام بحق التأليف وإخراج الموسوعات، فترك لنا عدة مؤلفات تشهد بنبوغه في ميدان التعليم والعمل الإصلاحي، ولم تشغله وظائفه التعليمية والرسمية عن القيام بواجب التأليف، ولعلّ من أهم أعماله:
كتابه الفريد (الخطط التوفيقية) وهي موسوعة في عشرين جزءاً .. تتناول مصر بمدنها وقراها من أقدم العصور إلى عصره، واشتملت على وصف دقيق لما تحتويه من مرافق ومنشآت ومساجد ومدارس تعليمية وزوايا ومساجد وأضرحة وكنائس، وهي موسوعةٌ يعجز عن إنجازها جامعات كبرى.
حُورب علي باشا مبارك كعادة الناجحين، فذكروا في ترجمته أنه كان لا يُوضع في مكان إلا ويعزل من مكانه سريعاً، وما أجمل وصف الأستاذ أنيس منصور بعد نقله هذه الرواية:
" وعلي باشا مبارك مُصِر على أن يؤدي واجبه في تعليم الشعب المصري من أي موقع".
إن الكبير الرائد علي باشا مبارك كغالب الوطنيين ينطلقون لخدمة بلدهم، فالوطن (مصر) مسؤولية الجميع، وبناؤه عملية تضامنية تشاركية لا سيما في ظل هذه التحديات التي يواجهها الوطن، ولا يقدر عليها جهة واحدة أو أفراد معدودون، بل لا بد أن يشارك جميع أبناء الوطن في سبيل نهضته.
لعلّ الدرس المستفاد من حياة علي باشا مبارك: (أنه لم يجعل أحداً يُبعده عن أداء رسالته الوطنية)، وكذلك الأولى بنا ألا نجعل الظروف وقوى الشر وأرباب التطرف حائلاً بيننا وبين خدمة وطننا (مصر)، وسبيل نهضتها.
حفظ اللهُ مصر .. وجعلها في دائرة أمانة.