لما كان التطرف هو المرض الاجتماعي السائد في مجتمعاتنا فمن الضروري التمييز بين ثلاث مصطلحات أساسية مهمة لفهم معني التطرف و هي:
١- التنطع:
و يعني بصفة عامة التعمق و البحث عن التفاصيل الدقيقة حول موضوع معين،و لكنه في الدراسات الدينية يعني البحث عن الغريب في التفاسير الفقهية و الأخذ بأكثرها غرابة و محاولة فرضها علي الناس بهدف إشعارهم بالجهل في الدين و بأن الفوز بالجنة مرهون بالأخذ بهذا التفسير دون غيره،كما يعد التمسك بالمسائل غير الجوهرية كإعفاء اللحية و تغطية الوجه، و غير ذلك من الأمور الشكلية تنطعا دينيا .
٢-التشدد:
ويعني التمسك بأهداب الشعائر بهدف الوصول إلي مرتبة الكمال في التدين، و قد جاء في الحديث أن :"الدين يسر لا عسر و لن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا و قاربوا....".
ومعني هذا الحديث أن مغالبة الدين نتيجتها الحتمية هزيمة المتدين؛لأنه إذا تمسك بحد الكمال فلن يبلغه في كل الأحوال؛فقد يصيبه الملل و السأم، و بالتالي فلن يداوم علي الطاعة،و لذلك كان أفضل الأعمال أدومها و إن قل.
و برغم نهْي الشرع عن التشدد حتي في أداء الشعائر الأساسية فإننا نري بعضهم يحرض عليه مع حتمال تقصيرهم فيما ادعوه سلوكيا؛فيأمرون غيرهم بما لا يفعلون.
٣-التعصب:
و يعني لغويا الانتماء لأهل الدم و الأصل - و هم أبناء القبيلة الواحدة(و هو ما يسمي بالعصب) و لكن المعني الاصطلاحي للتعصب يدل علي الاعتقاد الجازم بفكرة أو بعقيدة أو بأي شيء آخر اعتقادا لا يمكن التخلي عنه لأي سبب،و تكمن خطورة التعصب في أنه مؤسس علي العاطفة و الانفعال دون العقل الذي من طبيعته تقليب الأمور علي وجوهها المختلفة،فاذا بدا له أنه علي باطل تراجع عنه و عاد إلي صوابه.
ومن المؤكد أن المصطلحات الثلاث السابقة تساهم معا في تأسيس بنية التطرف الفكري الذي يعد منصة صواريخ الإرهاب و العنف السلوكي.لأن السلوك هو ترجمة للفكر و تجسيد له.
ومن هنا كان الدور الأهم للثقافة و المؤسسات الثقافية و التربوية في بلادنا،و لذا يجب اعطاؤها الاهتمام اللازم للقيام بدورها في تنمية الوعي الناقد المضاد لكل من التعصب و التشدد و التنطع،و بالتالي تصبح مصر دولة مدنية عصرية،و بهذه المناسبة فإن تنطع الأحزاب السلفية هو الذي يدفعها دائما إلي بُغض مصطلح "مدنية".
ومن المؤكد أيضا أن مصدر هذا الرفض هو جهل هؤلاء بمعني المصطلح الذي يعني - فيما يعنيه -أن الدين يجسده فهم الناس، و أن هؤلاء الناس يجب أن يشرعوا لأنفسهم بناء علي هذا الفهم.
وهكذا فإن مصطلح" المدنية" لا يعني الكفر و الخروج علي الشرع كما يروج هؤلاء. و يبقي كل هذا دليلا علي غياب التعقل، و علي سيادة روح التعصب الأعمي لأفكار معينة و بلا أدني تمحيص، و يقف أيضا دليلا علي الغلو فيما هو غير جوهري بما يدفع باتجاه العنف السلوكي،و هم لا يعلمون أنه- في الأول و الأخير- عنف ضد الله نفسه في مقاصد شريعته.