موسيقى يوهان سباستيان باخ
د . أمل مبروك
كانت مدينة "آيزناخ" الألمانية – في القرن السابع عشر – معروفة بتمسكها الديني المسيحي، حيث تتغنى بالترانيم الكنائسية وتسبح في موجة من الموسيقا الروحانية. هكذا عاش "يوهان سباستيان باخ" في هذا المناخ الفني الراقي، لأنه آمن بأن معرفة اللاهوت والإخلاص في العقيدة شرطان ضروريان لمؤلف الموسيقى الدينية. وكان يرى أن دراسة التأليف الموسيقي والنظريات الموسيقية، ليست في ذاتها كافية لإنشاء موسيقى دينية. فالتعليم الفني يصقل الذهن ويجعل المرء عارفًا بأصول صنعة الفنان، ولكن الإيمان الديني العميق هو الذي يتيح للموسيقي تأليف موسيقى بروتستانتية تزيد المسيحي قربًا من خالقه.
كان "باخ" يعتقد أنه في حاجة إلى مزيد من الإلمام بأسس اللاهوت حتى يعبر في موسيقاه عن أكبر قدر من الروحانية. وتوصلت عبقريته إلى مستوى رفيع في تأليف ملاحم دينية على أساس النظام "الباروكي" ومنها ملحمة بعنوان: "آلام السيد المسيح وفق القديس يوحنا"، وقدم ملحمة ثانية تفوق الأولى في الإحساس بالخشوع الذي تفرضه على مستمعيها بعنوان: "آلام السيد المسيح وفق القديس متى".
ومن هذا المنطلق كرس "باخ" حياته لإصلاح الموسيقى البروتستانتية، فكتب يقول: "إن هدفي النهائي هو أن أعيد تنظيم موسيقى الكنيسة". وكان يأمل أن يتيح للإنسان – بفضل موسيقاه – أن يصبح مسيحيًا أفضل. ومن أهم آلات التعبير الموسيقي عنده آلة "الأرغن"، والقالب الذي امتاز فيه هو قالب "الفوجة" Fugue وعن طريق الغنائية التي تسمى "الكانتاتا" Cantata(وهي عبارة عن عمل موسيقى لمجموعة من الأصوات الغنائية والكورس والأوركسترا، تتألف في معظم الأحيان من عدة حركات). وكذلك الكورال، أدخل على الشعائر الدينية أفكارًا جمالية هي المبادئ التي بنى عليها ذلك الإصلاح الذي طالما دعت الحاجة إليه لموسيقى الكنيسة البروتستانتية.
لم تلق حماسة "باخ" – كما رأى جوليوس يورتنوى – لإصلاح الموسيقى البروتستانتية فنيًا استجابة كبيرة، إذ سجلت الكنيسة عليه أن طريقته في عزف "الأرغن" وكذلك موسيقاه تشوش عواطف جمهرة المصلين بأنغام أجنبية غريبة. وعندما عمل في كنيسة "القديس توما" في ليبزج، اشترط عليه – في العقد الذي وقعه – أن تكون موسيقاه ملائمة للشعائر، وألا يكون عزفه طويلاً إلى حد لا يتناسب مع هذه الشعائر تناسبًا معقولاً؛ وألا يدخل موسيقى الأوبرا الإيطالية في الشعائر، وأن يتذكر دائمًا أن وظيفة عازف "الأرغن" بالكنيسة هي خدمة الصلاة عن طريق الموسيقى، وليست صرف الانتباه عن العبادة بالاستعراض غير المجدي لمقدرته في العزف على "الأرغن" أثناء أداء هذه الشعائر. وكانت عقود الموسيقيين – في عصر الباروك – تشترط عليهم البقاء داخل المدينة وعدم مغادرتها بدون إذن. وقد أدت هذه القيود المفروضة على حرية "باخ" المادية – فضلاً عن تلك المفروضة على حريته الموسيقية، مقترنة بما لقيه من تجاهل – إلى جعل السنوات الأخيرة من عمره أتعس سنوات حياته.