الجمعة 22 نوفمبر 2024 12:12 مـ 20 جمادى أول 1446هـ

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

آراء وكتاب

الضوء الشارد وخيوط الجريمة !

د . أسماء عبد الفتاح حسين

عندما عُرض مسلسل الضوء الشارد لأول مرة، لم تكن لديّ حالة الإعجاب برسالة المسلسل رغم إعجابي به كعمل درامي رائع، لكن ظل شيء داخلي يرفض ذلك الإعجاب والتأييد الذي كنت أراه في عيون من حولي بشخصية رفيع بيه العزايزي، ظل دافع يقودني للكتابة على مدى كل تلك السنوات الماضية، ويتجدد لديّ الدافع كلما رأيت المسلسل بالصدفة، وأتحول من مشاهدة لعمل درامي هدفه الأول التسلية والمتعة إلى راصدة لانفعال من حولي بأحداث المسلسل.


واليوم علمت ما هو الشيء الذي أريد أن أكتبه منذ سنوات، علمت أن الرفض الذي كان يعتريني لأحداث المسلسل وانفعالات المشاهدين، يتعلق بسهولة غسيل دماغ إنسان والتأثير عليه وسلب إرادته، بل وسحبه تجاه فكرة معينة تريد أن تصدرها له، خاصة لو كان المدخل من الناحية العاطفية، فمثلا كل المشاهدين كانوا يحبون شخصية رفيع بيه، بل وصل الأمر بتقليد طريقة حديثه وملابسه في الصعيد من شباب العائلات المعروفة، فكان رفيع بيه بالنسبة لهم هو مثال الرجل الشهم ابن الأصول القوي الحكيم الذي يتمنى كل كبير عائلة أن يكون مثله، وكان هناك تعاطف كبير مع فرحة (منى زكي)، وكانوا يرون وهبي السوالمي شخصية دونية ليس له أصل يذكر وشخص حقير يعتدي على أسياده الذين كان أباه وعائلته جميعا من السوالم خادمين لدى عائلة العزايزة، فاستطاعت الدراما أن ترسخ في عقول الناس الفكرة التي يقتنع بها مؤلف العمل وبالفعل نجحوا في ذلك، في حين أنك إذا خلعت عنك العاطفة ونظرت بعين الحقيقة العادلة ستدرك أن عائلة العزايزه إقطاعية مسيطرة تحتكم على أراضي القرية، وعائلة السوالم وغيرهم خدم لديهم وقيل في المسلسل إن أبا رفيع بيه كان يجلد أبا وهبي السوالمي، وهذا ما ظهر في أكثر من مشهد عندما كان الأخير يتذكر ذلك وتؤلمه الذكرى، وكان أيضا أبو رفيع بيه يضرب الخدم (بالكرباج)، كما تحول أخو وهبي إلى إرهابي بعد أن كان متفوقا في دراسته لأنه أحب سمية الخشاب بنت عم رفيع بيه، وطبعا تم رفضه والتنكيل بأمنيته وسمع ما حطم كرامته وفؤاده.


وعندما أصبح وهبي السوالمي من الأثرياء لأنه أدرك أن سطوة عائلة العزايزة وجبروتهم سببها المال، فتاجر في كل ممنوع حتى يثأر لكرامة عائلته، لأن النفس البشرية السوية تدرك أن لا فرق بين عربي على عجمي إلا بالتقوى، ولكن عندما تسطوا طبقة غنية على فقيرة، فيتولد لدى بعض الفقراء روح الانتقام ويتعاظم الثأر واسترداد الكرامة، فمن يا ترى إذن الشرير؟! الذي يتسبب في الشر أولا؟ حتى عندما اغتنى وهبي السوالمي، ظلت عائلة العزايزه تمارس تنمرها وجبروتها وتذكّره في كل مرة أنه مهما اغتنى، فهو مجرد خادم وضيع أصبح يملك المال، وكيف لخادم مهما علا شأنه أن يناطح أسياده؟! وكان المشاهدون يرتوون وتثلج صدورهم عند تلك المشاهد التي كانت تتعالى فيها الموسيقى التصويرية لتنبيه المشاهد أن هناك قصف جبهة ووهبي السوالمي الوضيع لن يستطيع أن يضع رأسه برأس أسياده، فتولد لديه روح الانتقام، وظل طموحه في كسر أنف عائلة العزايزة يتعاظم، امتلاك المال ثم السلطة ثم النسب حتى لا يكون أحد أفضل من أحد.


ظل المشاهد يرى رفيع بيه وعائلته الطيبون ويرى وهبي السوالمي وعائلته الأشرار برغم أن أبا وهبي السوالمي كان رجلا طيبا ومسالما وكان رفيع بيه يحبه لأنه لم ينسى أصله!! ولم ينسى أنه كان ذات يوم "كلاف" لدى العزايزة، أي خادم للمواشي، وعندما كان يرى رفيع بيه كان يجري لتقبيل يده، لولا وهبي الذي كان ينهره ويحاسبه على ذلك، فعائلة العزايزة ليس لديهم مشكلة أن تغتني عائلة أخرى، ولكن لديهم ألف مشكلة في المساواة، وأن يسحب أحد منهم بساط السلطة والتغني بالأمجاد القبلية، أما الست فرحة بطلة المسلسل وهي الضوء الشارد أي الحب الذي يقتحمنا رغما عنا، بنت الميكانيكي!! كما كان يلقبها عائلة العزايزة، أحبها فارس أخو رفيع بيه وعندما توفي ذهبت لعائلة العزايزة بحفيدهم، وكان وهبي وقتها نجح أن يزوج ابنته لرفيع بيه بالمساومة ورغما عنه، تلك البنت التي كانت تحب فارس من طرف واحد فأحب هو فرحة وتزوجها وعندما تزوجت رفيع بيه أحبته، فأحب هو أيضا فرحة، فتظهر بنت وهبي السوالمي بصورة الفتاة الشريرة التي يكرهها كل من في المنزل لأنها ابنة وهبي الذي أجبرهم على هذه الزيجة، فتتحول هذه الفتاة الضحية في أحداث المسلسل إلى شريرة لأنها جُرحت في كرامتها وأنوثتها، فتحولت أيضا للثأر من تلك العائلة.


نحن كمشاهدين نتعاطف مع فرحة التي أحبت أخو زوجها المتزوج، ونكره بنت وهبي الشريرة التي لم تشعر في بيت رفيع بيه سوى بالذل والمهانة والقهر والظلم!! وينتهي المسلسل بعد أن ينتصر الخير من وجهة نظر المؤلف!! ووهبي السوالمي تقتله الشرطة، وبنت وهبي الشريرة تأخذ جزاءها، وفرحة تتزوج رفيع بيه ابن الأصل والنسب، والناس تصفق وتبكي فرحا لتلك النهاية العاطفية وانتصار الخير على الشر والحب على الكراهية!!.


وهنا دق في قلبي ناقوس الخطر بأنه من السهل جدا قلب الحقيقة ومن السهل أيضا أن تقنع الناس بالشر أنه هو الخير وأن الضحية هي الجانية، بل سيعددوا لك أسباب مقنعة جدا لرأيهم، للأسف وصلنا لمرحلة مخيفة من عدم الوعي والتفكير فقدنا التدبر الذي كرره الله علينا في آيات القرآن الكريم "ألا يعقلون" "ألا يتدبرون" "ألا يتفكرون"، عدم الوعي والتفكير والإدراك جعلنا نذهب بأنفسنا لأحداث النهاية مستسلمين جدا، فمن السهل أن تسيطر على عقل إنسان وتجعله يفعل ما تريده بدون أدنى مجهود، أعتقد الآن اتضحت الرؤية وعرفنا لماذا قتلت نيرة ولماذا تكررت نفس الحادثة بمنتهى الوحشية ولماذا يقتنع القتلة من داخلهم بأنهم ليسوا مجرمين، بل ضحايا ويثأروا لمشاعرهم، منذ هوجة الأغاني التي كانت تروج للحب بالغصب ورغما عن الطرف الثاني وبالقوة، أمثال "تيجي متجيش أنا كدة كدة راضي، حبيبي مستني وهفضل انادي، هقول وهعيدلك والله قاعدلك، هتعمل ايه بقى لواحد فاضي"، إلى أغنية "وراك انا والزمن طويل، انا مش هسيبك مستحيل، قول عليا مجنون قول عليا موهوم، هي كلمة مني ومن الآخر هتحن فيوم"، إلى أغاني الراب والمهرجانات والتي بها كلمات انتقام وقتل وأسلحة، بل وسب بل وشرح لطرق جريمة كاملة، فهناك أغنية سمعتها بالصدفة فيما معناها "سأذهب إلى والدك الذي رفضني وأخطفك واتزوجك بالقوة أو اقتلك".


أليس كل ذلك غسيل أدمغة دون أن ندري، بكل سهولة ابنك أو ابنتك أي جهة تستطيع سحبهم بالتدريج إذا لم تكن على دراية فيما يفعلونه ويسمعونه وينتمون إليه ويقتنعون به حتى عندما نريد أن نتدارك الموقف نفشل في الطريقة الصحيحة، فهل معظم الشعب ممن يرون أن إعدام هؤلاء القتلة على العام سوف يقلص من الجريمة ويجعل المجرم يفكر قبل أن يرتكب جريمته، للأسف لا أعتقد أن ذلك الفكر صحيح كما لم أقتنع يوما أن مواجهة ظاهرة سلبية بمناقشتها من خلال الدراما أو نشرها لدراستها علنا يقلص من الجريمة، بل على العكس التركيز على ظاهرة سلبية يجعلها تنتشر أكثر، وذلك ليس مجرد قناعة شخصية فحسب، بل رأي أساتذة كبار بمركز البحوث والدراسات الاجتماعية والجنائية والذين يدرسون تلك الجرائم جيدا ويقوموا بإحصائها، يؤكدون أيضا أن التركيز على السلبيات من خلال الدراما لمواجهتها كما يدعي القائمون على العمل يزيدها ولا يحلها أو ينقص منها، فالمجرم لن يتعظ إذا رأى غيره بنفس جريمته يُعدم لأن ما يسيطر عليه في ذلك الوقت هي أفكار الجريمة فقط، فالمجرم الذي يفكر في القتل أو الاغتصاب أو السرقة لا يخاف من الموت لأنه وصل لمرحلة أن حياته والموت واحد، كل ما يفكر به هو الجريمة وتنفيذها.


أنا ضد نشر أنباء القتل والجريمة على منصات التواصل حتى لا يقسو القلب ولا تعتاد الأذن ولا تألف العين ويصبح عاديا أن نسمع كل يوم عن تلك الجرائم ويتلاعب الشيطان برأس كل من فقد عقله بأن يكررها، نحن نتعرض كل يوم ألف مرة لمحاولات غسيل دماغ، محاولات مباشرة وغير مباشرة، محاولات للمدى القريب والبعيد لأهداف شخصية وأهداف عالمية، أنت وأنا مجرد ترس في عجلة كبيرة ولأننا لم نعتد في المدارس على التفكير، واعتدنا على الحفظ والتلقين، ولأننا لم ننشأ على الديمقراطية والحوار أنت كنت ضحية طريقة تربية أهلك على قناعة بأنها الطريقة الصحيحة لتربية فرد صالح في المجتمع وربما تلك الطريقة ليست مناسبة لك أصلا حتى في علاقاتنا في العمل والصداقة وغير ذلك، هناك طرف يتبنى فرض الرأي، أصبح من السهل السيطرة والتحكم في العقول، أصبحنا أدوات في يد الشر، وإن لم ندرك ونتفكر ونستفيق ونتعلم ونتعلم ونتعلم ونواجه أنفسنا بأخطائنا وأن الإنسان من السهل أن يتغير إذا أراد ذلك، فالله قادر على تغيير القوم إذا غيروا ما بأنفسهم.

الضوء الشارد الدراما مقالات