محمود أبو السعود يكتب: اغتيال «الخُوجة»
محمود أبو السعود
«ابجد هوز حطي كلمُن .. شكل الاستاذ بقا منسجمُن» كلمات للفنان نجيب الريحاني فى فيلم «غزل البنات » والذي لعب فيه دور البطولة أمام الفنانة ليلي مراد وعبرت شاشة السينما عن حال المعلم المصري حينذاك هذا المشهد الذى تسبب فى رفع رواتب المعلمين حينها، ثم تطور لقب الخوجه ولقبوه بالاستاذ وأخيراً المستر.
اختلفت رؤية المجتمع على مدار الأجيال للمعلم، ما أثر على شخصيته من عدة جوانب تمثلت في الملبس والوضع الاجتماعي والاحترام والتقدير، حتى في الجانب المادي اختلف تقدير الدولة له، ان للمعلم هيبة محفوظة وكرامة سامية يستمدها من هيبة العلم ومن سمو رسالة التعليم ولاخير في جيل ينهل من العلم على انقاض هيبة وكرامة المعلم!
وتبقى كلمات الفنان محمد صبحي من «ذهب» حين قال إذا أردت أن تهدم حضارة أمة فهناك وسائل ثلاث هي:
- هدم الأسرة، هدم التعليم، اسقاط القدوات، ولكي تهدم اﻷسرة عليك بتغييب دور (اﻷم) اجعلها تخجل من وصفها ب"ربة بيت"
ولكي تهدم التعليم، عليك ب(المعلم) لا تجعل له أهمية في المجتمع وقلل من مكانته حتى يحتقره طلابه، ولكي تسقط القدوات، عليك ب(العلماء) اطعن فيهم قلل من شأنهم شكك فيهم حتى لايسمع لهم ولا يقتدي بهم أحد.
فإذا اختفت (اﻷم الواعية) واختفى (المعلم المخلص) وسقطت (القدوة) فمن يربي النشء على القيم!
(فى فترة الخمسينات والاربعينات)
«الاستاذ حمام٠٠ انا كده حظى كده» المعلم في تلك الفترة، عبارة شخص مطحون غلبان ساذج، يرتدي ثياب بالية مكونة من بذلة وكرافتة بنطلونها قصير شيء ما، بجانب طربوش يضعه على رأسه، ويمسك بيده منديل قديم ممزق، وكان ناظر المدرسة يبوخه أمام التلاميذ، ويسخر منه طلابه، وظهر ذلك جليًا في دور الأستاذ حمام في فيلم "غزل البنات" 1949، الذي قدمه الفنان الراحل نجيب الريحاني.
«الخوجه بدون طربوش الاستاذ عبده» بعد قيام ثورة يوليو 1952،، تطور المعلم قليلًا وبدأ يستغني عن الطربوش، ولكن ظلت البذلة هي الزي الرسمي له واحتفط بلقب "الخوجة"، وتحسنت حالته المادية، بسبب اهتمام الدولة بالتعليم حينها وإقرار المجانية، وكان طلاب المدارس يكنون كل الحب والتقدير لمعلمهم، الذي يتلقون منه العلم، وكلهم أمل في المستقبل، وبدا ذلك في هيئة الأستاذ عبده الذي كان يجسده أحمد مظهر في فيلم "غصن الزيتون" والذي أنتج عام 1962.
«استاذ جيل الخنافس» وفى السبعينات البنطلون "الخنافس" والجاكت الملون والكرافتة الطويلة، هكذا كان يلبس المدرس، بالتزامن مع الموضة حينها، وبدأ المجتمع المصري يستغني عن لقب "الخوجة" ويستخدم لقب "الأستاذ"، وأهتمت الدولة بمهنة المعلم حينها فأنشأت "مدرسة المعلمين"، وخصصت كليات للمهنة وأصبحت مهنة المعلم مفضلة لدى الكثير، وازداد الأقبال عليها.
«الاستاذ والمصلح الاجتماعي» أما فترة الثمانينيات ازداد احترام المجتمع للمعلم، نظرًا لتطور هيئته من ناحية المظهر، والوضع الاجتماعي، الأناقة والوقار أكسبا المعلم في هذه الفترة هيبة كبيرة لم تقتصر على دوره في المدرسة فقط بل أصبح له دورًا بارزًا في حل المشاكل المجتمعية، وهذا ما جسده الفنان نور الشريف في شخصية "الأستاذ فرجاني" بفيلم آخر الرجال المحترمين.
«الاستاذ رمضان وعصاه والبدله الكستور» في التسعينيات تغيرت هيئة المعلم قليلًا، فاحتفظ بلقب "الأستاذ"، واستغنى عن البدلة، وبدأ يرتدي زي مخصص له "البدلة الكستور"، وهي عبارة عن جاكت مقفول بـ"الزرائر" وبنطلون بنفس اللون، وممسكًا بعصا لعقاب طلابه، وظهرت عليه الهيبة داخل وخارج المدرس، حتى أن الطلاب كان يفرون منه حينما يقابلونه خارج المدرسة، حتى بعض الطلاب كانت أمنيتهم المستقبلية أن يصبحوا معلمين، ولكن ظاهرة الدروس الخصوصية بدأت تنتشر، وهذه الهيئة جسدها الفنان محمد هنيدي في شخصية رمضان أبو العلمين حمودة.
«المستر الكاجول» في الألفية بدأ المعلم يواكب موضة الشباب، مع انتشار العولمة، والمدارس الأجنبية، فبدأ يطلقون عليه لقب "المستر" وأصبح لبسه لا يختلف عن لبس طلابه، فارتدى البنطلون الجينز والـ"تي شيرت" أو القمصان الشبابية وغيرها من موضة العصر، إلا أن هيبته بدأت تقل إلى حدٍ ما، لأنه استغنى عن العصا التي تمثل الشدة والحزم، كما أن الدروس الخصوصية أهانت كرامة البعض منهم، بالإضافة إلى إهمال الدولة له ماديًا فساءت حالته.
والحقيقة أن وزارة التربية والتعليم هي التي خلقت هذا الجو؛ حينما أخذت تقلد أساليب الثقافة الغربية، داخل منظومتها التعليمية، فلا هي أتقنتها على النحو الغربي، ولا استطاعت العودة إلى أسلوبها الشرقي؛ فتفلتت أزِمَّةُ الأمور من بين يديها ومن خلفها، ومن فوقها ومن تحتها؛ الأمر الذي فقدت معه ثقافتها الأصلية، قرارات تعسفية ضد المعلمين، وهضم لحقوقهم، ولا يستطيع المعلم أن يناقش أو يتكلم أو يطالب بحقه، إلا عندما يطرح أرضا.
المعلمون يقومون بأعقد وأعظم مهمة، إنها صناعة الإنسان، وصياغة فكره، وتهذيب نفسه، وتطهير قلبه، وتقويم فكره، وتهذيب سلوكه، مسألة بها مفتاح التغيير في المجتمعات، وفي سائر جوانب الحياة
إذاً نحن الأساس في تجرئة أولادنا على معلميهم، وانتقاصهم وتصويرهم أنهم ماديون نفعيون، فهل نعي ذلك وندرك خطورة الواقع المأساوي الذي تعايشه مدارسنا اليوم من ضعف هيبة المعلم، وقلة احترامه وتقديره من فئة من الطلاب.
إن المعلم مهما كان عطاؤه قل أو كثر لا يجوز أن يهضم حقه فهو مربي الأجيال صانع النهضة وبانيها صاحب الفضل شاء من شاء أو أبى من أبى ومهنة التعليم من أشرف المهن فهل رأيتم أمة من الأمم فد نهضت بدون تعليم وهل رأيتم أمة تعلمت بدون معلم فلا رقي ولاتقدم بغير الأخذ بأسباب العلم، فإذا أرادت الأمة تحقيق النجاح والتقدم فلتكن العناية بالمعلم هدفها، ومهمة الإعلام إبراز دور المعلم في العملية التعليمية والتربوية على أنه المؤسس الحقيقي لهما وتوجيه المجتمع بكل أطيافه نحوه حتى يستطيع أن يؤدي ما أنيط به من عمل تربوي أو تعليمي صحيح، البعض بدأ يتحاشى هذا العمل مما يرآه حيث جرد المعلم من صلاحيته التربوية واقتصر على التعليم الذي يشك المرء في وصوله إذا انعدمت التربية والسلوك ومع ذلك لابد من بذل الجهد والصبر على الأذى واحتساب الأجر من الله تعالى ولكن للأسف يبدو أن مهنة التعليم تضايق الكثيرين إما عن جهل منهم أوعن حقد وحسد أو حتى يبرز إعلاميا مجرد أي خطأ من أحد المعلمين تراه يؤجج ويثير المجتمع والإدارة التي ما أن تسمع الخبر حتى تبدأ التصريحات وإرسال اللجنة تلو اللجنة للتحقيق في الموضوع مما ساهم ويساهم في التقليل من هيبة المعلم ومن دوره التربوي واعتباره أداة تسجيل يلقي الدرس فقط.
لقد كان للضرب قديما دور مؤثر في فرض هيبة المعلم واعطاء التعليم الهالة التي يستحقها في النفوس ولكننا للأسف ومنذ ان منعنا الضرب في المدارس وصادرنا حق المعلم في فرض هيبته التربوية على طلابه زرعنا في نفوس ابنائنا القدرةعلى التمرد والتعالي والقفز على صور هيبة المعلم!!.
وقديما عندما كان الاب يسلم ابنه الى المدرسة كان يوصيهم بأن (اللحم لكم والعظم لنا) في تأكيد على اهمية الحزم في التربية والتعليم اما اليوم فإن بعض الآباء يهب في وجه المدرسة بأكملها إذا عطس أحد في وجه ابنه!!
ولا ادري كيف نريد لأبنائنا ان يحترم المجتمع وتهاب انظمته وقواعده اذا كانت تنشأ منذ البداية على التجرد من الإحترام والتقدير والهيبة تجاه معلميها!
اننا نلاحظ اليوم ان الكثير من المراهقين في الاماكن العامة لم يعودوا يظهرون الاحترام للاكبر سنا ولم يعودوا يتحلون بالأدب في تعاملهم مع كبار السن فباتوا اكثر جرأة على الاساءة واظهار الاحتقار بل والتطاول بالاعتداء اذا لزم الأمر وهذه ظاهرة خطيرة تمت زراعة بذورها في المدارس عندما تمت مصادرة حق المعلم في فرض هيبته وعندما كسرنا عصاه التي يؤدب بها تلاميذه!!
فأعيدوا للمعلم هيبته قبل ان نفقد هيبة المجتمع واسمحوا له أن يحمل عصاه ولو على الأقل من قبيل حقه في الدفاع عن نفسه!!