كورونا بين محنة البلاء ومنحة التعايش والمصير المشترك
هدى درويش
كورونا بين محنة البلاء ومنحة التعايش والمصير المشترك
بقلم د هدى درويش
كورونا محنة كبيره عايشتها البشرية ولا زالت في استثناء تاريخي .. توحدت فيه الجغرافيا الدينية للعالم.... وتساوى فيها أتباع الأديان والمذاهب دون تمييز....وقدمت نموذجا صارخا على أن التعايش هو الخيرية المتعالية في هذا الكون..
محنة كبيره وبلاء عظيم لكنه في الوقت ذاته درس من الدروس الكبري تعاونت فيه الكونية بأسرها للخروج من النفق المظلم ، حيث توحد الجميع في سبل المواجهة، وأساليب الحجر الصحي والعزل، وتبادلوا الخبرات والإمكانيات...وتضرع الجميع إلى إله واحد أحد..يخرجهم من هذا الكرب العظيم الذى أوقف حركة الحياة ودمر الاقتصاد وفتك بالبشر، حيث سقطت الأيديولوجيات والفلسفات، وتهاوت جدليات الاستعلاء والتميز والتفوق، وخفقت القلوب في كافة جنبات العالم خوفًا من المصير المجهول.
ولقد ثار الجدل والنقاش طويلا بين أهل العلم وأهل الإيمان حول مسببات وباء كورونا القاتل..... فبينما يؤكد أهل العلم التجريبي أن معامل الهندسة الوراثية بريئة من هذا، وأنها لم ترتكب انحرافا أو جرما يستوجب كل هذا الانفلات البيولوجي حول العالم ، ويؤكد قولهم البعض من أهل العلم الديني أنه وباء سيق مسخرا لعقاب عصاة البشر ومعهم المؤمنون الذين شملتهم العقوبه لأنهم صمتوا وتقاعسوا وتركوا العصاة يفسدون في الأرض .. وفريق ثالث يرى غير ذلك وأن كورونا فعل بشري محض.
وما زال كورونا كائنا بلا هوية أصغر من أن يرى ، لكنه مدمر ، ظهر أخيرًا في العالم يعثو في الأرض ليصيب البعض، ويرهب الآخر، ويقتل بلا هوادة، لا يفرق بين الصالح والطالح ، ولا ينتقى أحد والكل سواء في الدمار ، إنها محنة شديدة أرادها الله تعالى ، يراها البعض رسالة الهية موجهة للبشر أرادها المولى سبحانه الذى له الخلق والأمر، وله الحكمة فيما أراد، فما من بلاء إلا ومن ورائه رحمة، والله عليم بعباده، فلننظر إلى خير البشر وهم الرسل الكرام وأنبياء الله وأحبابه، فهل كان إلقاء ابراهيم عليه السلام "خليل الله" وأبي الأنبياء في النار محنة، أم كان أمرا عظيما يطوى من ورائه قدرة الله العلى القدير الذى قدر نجاته فحول النار بقدرته العظيمة إلى برد وسلام على إبراهيم .
وذو النون الذى التقمه الحوت وظل في أحشائه في أعماق البحار، كيف نجا بعدما سبح الله ولجأ اليه لينقذه ، إنها القدرة والعناية والرحمة الإلهية التى أخرجته من بطن الحوت؛ فكان تسبيحه رحمة من الله لكل المؤمنين الذين وعدهم الله بالنجاة من كل ضيق و كرب وذلك في قوله تعالى جل جلاله "وكذلك ننجى المؤمنين" .
وهذا يوسف عليه السلام الذى مكث في السجن سنين رضاءًا وتسليما بما كتبه الله عليه، فكان جزاؤه أن أصبح حاكما على خزائن الأرض، فلننظر كيف كان صبره في السجن سنين طوالا، وكيف تحمل سيدنا يعقوب هذه المحنة التى طالت حتى فقد بصره، ثم جاء الفرج فرد الله إليه بصره بعد صبره ولقى ابنه سعيدًا راضيا مرضيا، إنها الحكمة الالهية التى تنتهى بأجمل ما يمكن تصوره أو تخيله من الرحمة الالهية بعباده.
وأيوب عليه السلام الذى اختبره المولى بالمرض سنين طوالا؛ فكان جزاء صبره والتجائه لله بدعوته "إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" فتنزلت عليه الرحمات وأبدله الله من بعد مرضه عافية واستعاد ملكه وأمواله .
وسيدنا عيسى عليه السلام كلمة الله الذى نزل بالمحبة والرحمة والمعجزات التى أجراها الله على يديه، فماذا كان مصيره بعد ان كادوا له وارادوا قتله وصلبه، فكان جزاء صبره وإيمانه أن رفعه الله إليه إلى السموات العلى .
وما جرى لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وما تحمله من ايذاء حتى من أقرب الأقربين اليه وهو حبيب الله ورسوله ورحمة الله للعالمين.
إنها الحكمة والارادة الالهية التى ذكرها الله في كتابه العزيز في قوله تعالى: أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (العنكبوت: ٢) إنها التذكرة والتربية والتوجيه من المولى عز وجل لعباده ليعودوا إلى الله عودا حميدا بعدما يئسوا ولم يجدوا ملجأ لهم إلا الله ، حتى إذا قال الرسول والذين معه (مَتَى نَصْرُ اللَّهِ؟) عند هذا التضرع ، وفى هذه الساعة، تنزلت الرحمات؛ فجاء الرد الإلهى (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) ( البقرة: 214).
كذلك الأوبئة والأمراض التى مرت من قبل كالطاعون الذى اجتاح البشر وقتل الكثير منهم مرات عدة أولها كان فى أثينا عام 430 ق.م فقتل بين 75 ألف و100 ألف شخص، وطاعون الإمبراطورية الرومانية بين سنتي 165 و190 م والذي قتل حوالي خمسة ملايين شخص ، وطاعون الموت العظيم الذي اجتاح أوربا بين عامي 1347 و 1352 م وقتل ثلث سكانها وهاجم مصر حينها وحصد عددا هائلا من الأرواح. وغيره من الأوبئة التي ضربت العالم على طول التاريخ ، وكذلك الزلازل والحروب والفيضانات التى مرت على البشرية في عهود مختلفة، كل هذا يضعنا أمام الله في موقف العجز أمام القوة الالهية فلنلجأ إلى الله بقوة روحية شديدة نتوب إليه وهو التواب الرحيم، غافر الذنب، وقابل التوب، وهو الحكيم القادر على إزالة كل ما يصيبنا بكلمة "كن" فكان أمر الله الرحيم بعباده .
إن ما يشهده العالم من تدمير للبشرية من جراء هذا الكائن الذى لم يتصور أحد وجوده يوما لصغره وغموضه واستعصائه على التقدم العلمي والطبي لهذه اللحظة ، حتى إنه أصاب الدول العظمى في قدراتها التكنولوجية وما تمتلكه من علوم واختراعات وتقدم هائل في العلوم التكنيكية والطبية والعسكرية وكلها وقفت عاجزة أمام هذا الكائن، لنرى آيات الله في الآفاق.
لقد سلم العالم كل أسلحته لله القادر فنادى البشرية ان تتوجه بالدعاء أملا في استجابة الله العزيز الجبار، مالك الملك الذى لا يعجزه شئ في الأرض ولا في السماء، ان يرفع عن العالم هذا البلاء .
إن هذا الكائن ما هو إلا آية من آيات الله الكونية في خلقه يحمل رسالة إلى البشر تقول:
"أما آن الأوان... للمحبة ان تضع بذورها وتسود الأرض" ؟؟
أما آن الأوان... لوقف المذابح والقتال والاقتتال" ؟؟
أما آن الأوان... أن نترك الأحقاد والضغائن والمكائد لبعضنا البعض"؟؟
أما آن الأوان... أن نرضى ونسلم بقضاء الله وقدره" ليعطينا من قدرته العظيمة.. ما ندركه وما لا ندركه .. وما نريده وفوق ما نريده ؟؟
أما آن للإنسانية أن تقوم بدورها في إرساء أسس ومبادئ وأصول وعدالة الديانات على اختلافها في أرض المعمورة" ؟؟.
فلنر آيات الله في مخلوقاته، ولننظر للدعوة التى أطلقها الأمين العام للأمم المتحدة والتى طالب فيها العالم بالهدنة الكاملة، ووقف كل أشكال الحروب والنزاعات، وكافة أعمال العنف واللإرهاب خلال الفترة الراهنة، ذلك لانشغال العالم بهذا الكائن المخلوق الذى رغم ضآلته وتفاهته، كان سببًا فى ازهاق أرواح البشر في كل أنحاء العالم .
إنها بلا ريب محنة عالمية قدرها المولى للبشر ولكن بيد الإنسان الذى استخلفه الله على الأرض أن يحولها إلى منحة إلهية جاءت لايقاظ البشر .
لقد طالعنا من خلال المشاهد العالمية في دول الغرب عبر وسائل الاعلام، كيف يتجه البشر المسلم منه والمسيحى ، اليهودى والبوذى، رافعين أكفهم بالدعاء والصلاة والتضرع إلى الله من أجل رفع هذا البلاء والابتلاء عن العالم .
إنها العودة الحميدة للفطرة الإنسانية التى خلق العالم من أجلها ، فلنرفع أيدينا ولنوجه قلوبنا معا على قلب رجل واحد، ولنصعد بأرواحنا متوجهين لله القادر المقتدر بالابتهال والتوسل والدعاء، أن يرفع عن العالم أجمع ما أصابه من ضر، معاهدين الله على دوام الطاعة والمحبة والإخلاص في السر والعلانية، متيقنين أنه سبحانه قابل التوب وغافر الذنب مجيب الدعاء بحق قوله تعالى : (ادعونى استجب لكم) فالله تعالى أقرب الينا أكثر مما نتصور ، بل هو تعالى أقرب إلينا من حبل الوريد .