مابين موجود آخر واليوم الآخر
د . هبة أحمد
لكل علم من العلوم منهاجه وموضوعاته التي تتناسب وطبيعته ومن هذا المنطلق كانت الفلسفة تصب اهتمامها بالموضوعات التي تتناسب وطبيعتها العقلية المجردة وتندرج تحت منهجها التأملي التحليلي، ومن ثم جاءت فكرة الألوهية بوصفها مسألة فلسفية أصيلة اهتمت بها مباحث الفلسفة الأساسية الثلاثة فاهتم مبحث الوجود(الأنطولوجيا) بما وراء الطبيعة من القوانين المنظمة للوجود برمته وعلاقتها بالله بوصفه الأصل الذي تكونت منه،ومبحث المعرفة (الابستمولوجيا) اهتم بوسائل المعرفة وانقسم فيه الفلاسفة مابين مؤيد للتجريبية المطلقة كأساس لكل المعارف، وبين مشكك في قدرات الحواس والميل إلى المعرفة العقلية المجردة بوصفها المصدر الشرعي للمعرفة وعند كلا الفريقين كانت فكرة وجود الإله محورًا رئيسيًا مابين إنكار لهذا الوجود على اعتبار أنه غير قابل للحدس وكل ماهو خراج نطاق المعرفة الحسية لايمكن إدعاء وجوده – من وجهة نظر الحدسيين- ،وبين جهة أخرى تصوغ من الأدلة العقلية مايكفي لإثبات وجود إله على أساس عقلي محض.واتجاه أخير يجعل للمعرفة حدودًا زمانية ومكانية وحسية ينبغي التزامها وكل مايُجاوز تلك الحدود يمكن الوصول إليه بطرق أخرى غير العقل وفكرة الإله لايمكن للعقل إدركها ومن ثم يكون القلب هو طريق الإيمان الأول وليس العقل.
والمبحث الأخير وهو مبحث القيم وثيق الصلة بفكرة الله حيث أن قيم الحق والخير والجمال كلها تدعو إلى تدعيم فكرة الإيمان بالله وتأسيس العقائد الإيمانية وفقًا لأدلة عقلية دون النظر إلى دين معين، ومن هنا يتضح ان اهتمام الفلسفة بالدين ليس اهتمامًا بإله بعينه فمن وجهة نظر فلسفية لايمكن احتكار مفهوم الله،فلايوجد اتفاق فلسفي حول ماهية الله وحقيقة مفهومه فيُشار إليه بوصفه الكلي.
ظهر تبعًا لما سبق التساؤل ما حاجة الفلسفى لوجود إله يتحرر من الأديان القائمة ؟
لعل الإجابة لاترتبط فقط بالفكر الفلسفي على نحو خاص،وإنما ترتبط بالفكر الوجودي على نحو عام، فالانسان منذ القدم عاش حياة بدائية مليئة بالمخاطر التي لم يكن لديه حينها من وسائل المعرفة مايؤهله لاكتشاف ماهية تلك المخاطر فتهاجمه الرياح والعواصف التي لايعلم لها مصدرًا،وتنهمر فوق رأسه الأمطار التي كان يجهل حتى اسمها،وتصارعه حيوانات ضارية العداوة لا يعرف عنها سوى أنها وحوش قاتلة، وفيضانات وزلازل وبراكين وغيرها من الظواهر الكونية التي عجز الإنسان القديم عن التحكم فيها مما اضطره إلى إحالة تلك الظواهر إلى موجود أقوى وأسمى يتمكن من التحكم في تلك القوى فالقدرة على الإعصار والإمطار والإنبات وغيرها من الأمور الفوق بشرية كلها نسبها إلى موجود افتراضي أقوى وهو بالطبع غير مرئي فرؤيته تتجاوز مفهوم الإبصار البشري،ولعل هذا الأمر يُفسر تعدد الآلهة في الحضارات القديمة بل تم تجاوز آلهة الظواهر المادية لآلهة تختص بالمشاعر والعلاقات الإجتماعية الجديدة فظهرت آلهة الحب والسلام والرحمة.
وتعمق مفهوم الألوهية إلى ماهو أبعد من مجرد فكرة وجود الله حيث وصل إلى الإيمان بحياة أخرى تتسم بالخلود والإيمان بأن الحياة الحالية بكل مافيها هي مرحلة انتقالية ولعل هذا يؤكد أن فطرة الإيمان موجودة في الكيان الإنساني منذ بداية الخلق.
على سبيل المثال-لا الحصر- آمن القدماء المصريون بحياة أخرى تبدأ بعد الممات وجعلوا الإله أوزوريس ملكًا للموتى ودونوا المخاطر والعقبات التي يمر بها الميت في رحلته إلى العالم الآخر أو ليس هذا الاعتقاد أقرب مايكون إلى الرحلة الانتقالية من القبر إلى الحساب يوم القيامة في الدين الإسلامي؟ بل وجعلوا أنوبيس إله الموت( عام 3100 ق.م) مسؤولًا عن قياس تقوى القلوب بقياس مدى صلاحها ونقائها من الكذب والحقد ومن ثم يتم تحديد مصيرأصحابها
ولعل اختيار شكل الآلهة وتصويرها على أنها مزيج بين المظهر الانساني والمظهر الحيواني يعود إلى الرغبة في اضفاء صفات القوة والشجاعة على التصور الالهي ذاك الوقت وكلها أمور تؤكد تأصل فكرة الألوهية في العقل البشري حتى قبل نزول الديانات السماوية ، فما أقرب رحلة الحياة السرمدية التي أعد لها المصري القديم بالغ العدة بفكرة البعث في الإسلام والانتقال من القبر مرورًا بالصراط المستقيم ووصولًا إلى قياس صلاح الأعمال وتحديد المصير، وحتى في الديانة اليهودية نجد في العهد القديم "فإنه قريب يوم الرب على كل الأمم.كما فعلت يُفعل بك عملك يرتد على رأسك" سفر عوبديا 15 ،الاشارة هنا تؤكد الجزاء يوم الحساب وترتأي اليهودية أنهم بوصفهم وحدهم الشعب المختار هم دون غيرهم الناجون في هذا اليوم.
يؤمن أنصار المسيحية باليوم الآخر أيضًا ولكنه مختلف عنه عند اليهود حيث يكون فيه إيذان بالمجئ الثاني للمسيح عليه السلام ومن صفات ذلك اليوم إظلام الشمس والقمر وسقوط النجوم ونفخ الملائكة في بوق عظيم،وثمة تشابه هاهنا بين علامات الساعة عند المسلمين وعلامات اليوم الآخر في المسيحية التي يؤمن أنصارها بالحساب "ولكن أقول لكم إن كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حسابًا يوم الدين" متى(12:36)
يختلف اليوم الآخر أو اليوم الموعود عند المسلمين عنه في اليهودية والمسيحية فاليوم الآخر في الإسلام هو بداية فناء العالم الدنيوي وبداية لعالم أبدي، فقد قال الله تعالى في كتابه الكريم:" ربنا إنك جامع الناس ليوم لاريب فيه إن الله لايخلف الميعاد" (آل عمران 9)
وتؤكد تعاليم الإسلام شأنها في ذلك شأن المسيحية واليهودية وجود حساب ولكن الحساب في اللإسلام مختلف فالثواب والنجاة ليسا حطرًا على أتباع محمد صلى الله عليه وسلم وإنما متاخ لكل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا من جميع الأمم السابقة التي سبقت بعثة الرسول فيقول الله تعالى في سورة البقرة" إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصائبين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون"
يتضح مماسبق أن فكرة موجود مثالي خلق الكون بمشتملاته وأخذ على عاتقه تيسير جزيئياته،ووجود مرحلة أخرى تخالف في طبيعتها الحياة المادية هي فكرة أزلية الوجود ويكون طرح موضوعات تدور حول البحث في تاريخ ظهور الله في الفلسفة طرح باطل فالوجود الإلهي أسبق من الوجود الفلسفي.