ناصر عراق يكتب: سمير غانم... وذكريات عمرها نصف قرن إلا قليلا
في إحدى ليالي صيف عام 1973 شاهدت سمير غانم على المسرح وهو يفجر طاقات الضحك لدى الجمهور عندما كان يلعب بطولة مسرحية (جوليو ورومييت). آنذاك كنت صبيًا مولعًا بالفن والسينما والمسرح إلى حد الجنون، وبسمير وجورج تحديدًا، لذا قدّم لي شقيقي الأكبر المهندس فكري، ضابط الاحتياط في الجيش المصري حينئذ، عرضا مغريًا وهو يخاطبني بنبرة تحريض وتشجيع على التفوق في الدراسة: (إذا تحصلت على 90% فما فوق في امتحان الشهادة الابتدائية، سأصطحبك إلى مشاهدة ثلاثي أضواء المسرح في عرضهم الجديد)، وأضاف ليزيد من إغراء المكافأة: (وسأعزمك على تناول الكشري في مطعم صبحي)، وهو أكبر وأشهر مطاعم الكشري في قاهرة ذلك الزمان.
في ذلك الوقت كان الجيش المصري يستعد سرًا لخوض معركة العبور بعد أسابيع قليلة، وكان عدد المصريين نحو 35 مليون نسمة، وكان شقيقي فكري ضابط رادار يخدم في أسيوط، فلا يتحصل على إجازة إلا مرة في الشهر لا تزيد عن خمسة أيام، يقضيها في متابعة جادة ودؤوبة لأحوالي الدراسية أنا وأشقائي وأبناء العم والجيران، فيشرع في شرح جميع المواد الدراسية، باستثناء اللغة الفرنسية، لطلاب الابتدائي والإعدادي والثانوي، وأشهد أنه كان أستاذا بارعًا في كل المواد، ومازال يمارس غرامه هذا بالمجان حتى وهو على مشارف عامه الرابع والسبعين.
بالفعل حققت نجاحًا مرموقا، فبلغ مجموعي في الشهادة الابتدائية 274 درجة من 300، أي نحو 91% وثلث درجة، وهي درجات محترمة جدًا بمقاييس ذلك الزمان، قبل أن تعرف مدارسنا الحديثة أولئك الذين يحصلون على درجات أكثر من 100%.
المهم... أوفى الأستاذ بوعده (أجل... لا أخاطبه حتى الآن إلا بالأستاذ)، وفي أول إجازة له من وحدته العسكرية اصطحبني من بيتنا بالمؤسسة بشبرا الخيمة إلى شارع عماد الدين بقلب القاهرة، حيث مسرح نجيب الريحاني الذي يعرض مسرحية (جوليو ورومييت)، وحيث مطعم (كشري صبحي) أيضا.
أذكر جيدًا أن تذكرة الأوتوبيس درجة أولى كانت بقرشين، والدرجة الثانية بقرش واحد، فركبنا درجة أولى، ونزلنا في محطة (القللي)، واخترقنا الشوارع حتى بلغنا شارع عماد الدين، والمسافة صغيرة. كنت تجاوزت عامي الثاني عشر بنحو أربعة أشهر، وكان قلبي يتراقص طربًا لأنني سأرى جورج وسمير رأي العين، فأنا من المبهورين بهما، وبرفيقهم الثالث الضيف أحمد الذي رحل قبل ثلاثة سنوات (1970)، إذ كان ثلاثتهم يقدمون فوازير رمضان في التليفزيون في النصف الثاني من الستينيات، ولما مات الضيف واصل سمير وجورج تقديمها، وقد فتنت بها افتتانا سواء والضيف ثالثهما، أو وهما منفردان.
في مطعم صبحي أقبل الجرسون الأنيق مرتديًا ثيابًا رسمية: الجاكت الأبيض والبنطلون الأسود، فقال لنا: (كشري ممتار ثمنه ثلاثة قروش، وكشري لوكس خمسة قروش). ورغم أن شقيقي أخبرني أنني لن أستطيع إكمال كشري لوكس لأنه كبير الحجم، إلا أنني طلبته، وكم اعتراني الخجل عندما شبعت قبل إكمال نصفه تقريبًا.
يبعد المطعم عن مسرح الريحاني خطوات قليلة، فبعد أن انتهيت من تناول الطعام في حدود الثامنة مساء شربنا (حاجة ساقعة... سي كولا) اللذيذة، وتوجهنا نحو المسرح. ففوجئت بتمثال نصفي لنجيب الريحاني يتصدر مدخل المسرح الذي علقت على جدرانه صورًا كبيرة لأبطال العرض وهم سمير وجورج وبوسي وأسامة عباس وزكريا موافي وفادية عكاشة وطفل صغير اسمه مدحت جمال. والمسرحية تأليف فهيم القاضي وإخراج حسن عبدالسلام.
المفاجأة المدهشة أننا شاهدنا سمير يقف على مدخل المسرح مع ممثل آخر (وهو أسامة عباس إذ لم أكن أعرف اسمه آنذاك، لكني أذكر شكله جيدًا من مشاهدتي له في مسرحية طبيخ الملايكة). كان سمير قلقا ينظر في ساعته باستمرار. وقفت بالقرب منه أرقبه وأنا غير مصدق. لم يكن طويلا فارعًا كما يبدو في التليفزيون، كما أنه يتهامس مع زميله بجدية ولا يضحكان!
بعد فترة توجه سمير وأسامة نحو الداخل، وبدأ الجمهور يتوافد، فالعرض يبدأ في التاسعة، وفجأة وصل فؤاد المهندس! أجل فؤاد المهندس بشحمه ولحمه وجديته ووقاره. كانت بصحبته امرأة، ليست شويكار، لكني لا أعرف من. وتزلزل داخلي. إنه فؤاد المهندس الذي يضحكني كما لم يضحكني أحد من قبل، فكم شاهدت مسرحياته الشهيرة التي يعرضها التليفزيون بانتظام مثل (السكرتير الفني/ أنا وهو وهي/ أنا فين وأنت فين/ حالة حب/ حواء الساعة 12/ أنا وهو وسموه/ سيدتي الجميلة). كان يرتدي بدلة صيفي ذات لون أصفر هادئ. ويبدو أن أحدهم أخبر سمير، فجاء مهرولا مرحبًا بحفاوة بالأستاذ وقاده ومن معه إلى (بنوار) خاص ليس له باب يغلق، وإنما ستارة شفافة، وسرت وراءهم كالمنوم، وشقيقي الأكبر يطاوعني، لأقف مشدوهًا أمام المهندس وأرنو إليه بانبهار. وسألني شقيقي إن كنت أريد مصافحة الكوميديان الكبير، فارتجف فؤادي بشدة من فرط الحياء، ولم أجرؤ على الكلام، فسحبي واستأذن وصافح فؤاد وقدمني له، فشدّ على يدي الفنان الكبير وسألني عن اسمي وفي أي صف في المدرسة، بينما الحروف تخرج من فمي محشوة بالكسوف!
جلستنا كانت في الصف الأول (ثمن التذكرة ثلاثة جنيهات)، لأن شقيقي الأكبر كان يقول لي: (حتى نستطيع أن نحضن الممثلين بأعيننا ومشاعرنا)، وكان راتب أخي من الحكومة نحو 40 جنيهًا، ومن الجيش نحو 12 جنيهًا كما أخبرني في اتصال هاتفي معه أمس من دبي، حيث قدمت له واجب العزاء في سمير غانم الذي يعشقه. وما إن فتح الستار حتى انهمرت الأضواء الملونة المذهلة، إذ لم تكن مصر تعرف التليفزيون الملون بعد، وسرعان ما اقتحم سمير وبوسي المسرح حتى سالت الضحكات بامتداد ثلاث ساعات تقريبًا، وأذكر أنني ضحكت كما لم أضحك من قبل، لدرجة أنني كنت أسقط من على مقعدي لأنني لا أستطيع تمالك أعصابي. أما بوسي فكانت ترتدي فستانا قصيرًا جدًا بدون أكمام، فلما تم عرض المسرحية في التليفزيون بعد ذلك، لاحظت أنها ترتدي فستانا طويلا بنصف كم حتى أطراف قدميها تقريبًا، إذ فرضت الرقابة التليفزيونية ذلك على الأغلب.
بعد ذلك شاهدت سمير غانم على مسرح الهوسابير على ما أذكر عام 1978 في مسرحية (الأستاذ مزيكا)، وهي من المسرحيات التي كانت تقدم ليوم أو اثنين من أجل تصويرها فيديو وبيع شرائطها. وكانت تشاركه البطولة نوال أبو الفتوح وإبراهيم سعفان، وضحكنا كثيرًا أيضا.
وفي صيف العام التالي 1979، كنت أنهيت دراستي الثانوية وأستعد للالتحاق بكلية الفنون الجميلة بالزمالك، وقادني الشغف إلى أكاديمية الفنون لأقدم أوراقي في معهد السينما، ومررنا باستوديو النيل بالمصادفة، ففوجئنا بسمير غانم يصور مشهدًا في الفيلم التليفزيوني (تحقيق) الذي أخرجه ناجي أنجلو (الذي لعب دور ريكو المدلل ابن خالة ميرفت امين في فيلم البحث عن فضيحة).
صافحنا سمير وكان يملأ (اللوكيشن) بالفكاهة، وكان بطل فيلم (تحقيق) محيي إسماعيل، ومن المفارقات أن المخرج ناجي أنجلو طلب منا، أنا وصديقاي، أن نجلس على المقهى ليمر بيننا محيي إسماعيل، وهكذا لعبت دور (كومبارس) صامت بالصدفة. وبعد انتهاء التصوير طلبوا أسماءنا ليعطوا كل واحد منا ثلاثة جنيهات!
تنهض كوميديا سمير غانم الخالية من الإسفاف والابتذال على (كسر التوقع) بصورة مذهلة، من خلال الكلمة أو الحركة أو المشي أو الملابس أو الإكسسوار... إنه يفاجئ الناس بما لا يخطر على بال. أذكر مرة في إحدى فوازير رمضان في مطلع السبعينيات أنه كان يلعب دور قيس، فظهر على الشاشة للمرة الأولى بثياب بدوية وغترة وعقال لكنه يستقل موتوسيكل ويضع نظارة فوق عينيه!
برحيل سمير غانم أمس 20 مايو 2021 تفقد دولة الكوميديا المصرية رئيس وزرائها النجيب، فتحزن الملايين على فنان فذ أهداها الضحكة الراقية من قرن إلى آخر بغير حساب.
مع السلامة يا أستاذ سمير.