في ميلاد المسيح.. قراءة إنذارية في المسكوت عنه
د. حاتم العبد
بقلم دكتور حاتم العبد
ألزمتني الضرورة وأوجبت عليّ المناسبة وأجبرني ضميري وناشدتني إنسانيتي ودفعني قلقي على الوطن وأرغمني خوفي على الأجيال القادمة كتابة هذا المقال. تتجلى الضرورة في أنه ورغم كوننا في الألفية الثالثة وبعد صعود الإنسان القمر، وبعد التطور المُذهل للبشرية، نجد شططا من بعض خلفاء الله في أرضه وشذوذًا في فكرهم، إذ طُرح سؤال يُبكي أكثر ما يُضحك، يُؤلم أكثر ما يُفرح، ألا وهو : هل يجوز تهنئة المسيحيين بعيد الميلاد ؟! وهذا السؤال يحمل بين طياته سؤالا آخر أكثر خطورة ألا وهو هل المسيحيين كفار أم لا ؟!
منبع القلق ومصدره أن هذا السؤال لم يكن بمزحة للضحك، ولا بفكاهة للتسلية، وإنما أتى من أشخاص اختلط عليهم الأمر، بين الحل والحرمة، الجواز وعدمه، بينما حسم فريقين آخرين أمرهم، فمنهم من يُؤْمِن بوجوبه ومنهم من يُؤْمِن بحرمته.
وهذا ما دعاني لأن أكتب في هذا الموضوع، لعل الفريق الحائر والذي لم يحسم أمره بعد، يجد في تلك السطور جوابًا وافيا وردًّا مقنعا وإيضاحا شاملا، ولعل الفريق القائل بحرمته يجد فيها دعوة لمراجعة مُعتقده، وفرصة لإمعان العقل الذي ميزنا به الخالق عن الحيوانات قبل أن تغرق السفينة بالجميع وتستقر في قاع بحر النهاية واللا عودة.
عندما سمعت أن هذا التساؤل قد طُرح على دار الافتاء، وكانت قد أجابت عليه بالإيجاب، اقشعر بدني ودبّ الخوف إلى قلبي وتسلل القلق إلى فكري، فالأمر ليس بالهين ولا بالميسور، فبدلًا من أن يشغل السائل نفسه فيما هو مفيد لنفسه ودينه ووطنه، من اتقان للعمل والإخلاص والتفاني فيه، انشغل بفكرة شاذة ورأي منبوذ مرفوض، ولرب ضارة نافعة، فهذه التساؤلات تستوجب منا دق نواقيس الخطر، واستنفارا سريعا، وآنية رد الفعل وحالة اتخاذ القرار، لأن ذلك يضرب الوحدة الوطنية في مقتل وينال من لحمة المصريين ووشائجها، ويفت في عضد نسيجها، ومعوق من معوقات التنمية والتقدم والرخاء ويوفر تربة خصبة للإرهاب وحاضنة مجانية للإرهابيين.
لم ينل شخص ما ناله السيد المسيح من الجدل والانقسام حوله، بل وإلى الحروب في بعض الأحيان. لعل أهم الاختلافات قاطبة هي الجدلية المثارة حول طبيعته وما إذا كانت محض إلهية أم مختلطة أم إنسانية بحتة. ولعلي لن أسلك مسْلك البعض من إقحام نفسي في هذا الجدل، وإيمانا مني بحرية الاعتقاد، فلكل إنسان الحق في الاقتناع بأي من تلك الطبائع. حق لكل إنسان أن يرى ويعتقد ما شاء فيما يتعلق وطبيعة السيد المسيح، فحقه في أن يراه إلها وحقه في رؤيته في الطبيعة المزدوجة وحقه في ان يراه إنسانا، لكن الذي ليس من حقه، هو إنكار حرية العقيدة على الغير، وفرض رأيه عليه.
رغم جمعيّة ما سبق، إلا أن المسيح له مكانة خاصة لدى الجميع. عند المسلمين هو من الأخيار وهو رسول كريم صاحب رسالة روحية سامية، وعند المسيحيين له شأن عظيم، فمنهم من يقول بألوهيته ومنهم من يقول بمختلطية طبيعته، أيًّا ما كان الأمر، فله من سمو المنزلة ورفعة المكانة وعلو القدر ما يجعل الجميع يحتفي ويحتفل بمولده.
ولعل المرء يحار في أمر هؤلاء الذين يخرجون علينا بتكفير المسيحيين ومن ثم بتحريم الاحتفال بميلاد المسيح، كأن بيدهم صكوك الإيمان والغفران، يُنعمون على البعض بالإيمان، وينعتون البعض الآخر بالكفر، يُدخلون من يرضون عنهم الجنة ويلقون بمن يخالفهم الرأي في النار، ثم ترى هؤلاء في الموالد وحلقات الذكر يبتدعون من الأفعال ما أنزل الله بها من سلطان، ترى البعض وهو يبكي بكاءا هيستيريا بجانب قبر، طالبا من المقبور الشفاء وأن تحل بركاته عليه وعلى أتباعه ومريديه، ترى الأجسام تتمايل يمينا ويسارا، ترى توسلات لغير الله وشرك به.
والسؤال المنطقي، كيف تقرؤون قوله تعالى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) وقوله تعالى (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ) ؟، وإذا ما كان المسيحيين كفارا فمن هم أهل الكتاب إذن ؟ ومن يحل للمسلم طعامهم والزواج منهم؟ ألا تعلمون أنه لا يجوز للمسلم الزواج بمشركة ؟ ثم أتقبلون بأن ينعتكم البعض بالكفار ؟ وأن يفتش في عقيدتكم ؟
وبما أن القاعدة الأصولية تقضي بأن مرد العدالة القياس على النفس، فإذا كان من حقك اعتناق فكرا ومذهبا، فمن حق غيرك، أن يعتنق فكرا مغايرا لفكرك ومذهبا مختلفا لمذهبك. غاية ما في الأمر أن حدود
حريتك العقدية تقف عند تخوم حرية الغير، أي من حيث تبدأ تلك الأخيرة.
ما أفخرني بكي يا إنسانية وما أحوجني لك يا عقل، أتحلون لأنفسكم الموالد وحلقات الذكر ولا تحلون الاحتفال بميلاد المسيح ؟ أشخص من آحاد الناس أنتم من قدستموه ونحرتم عند قبره القرابين، يعلو في منزلته منزلة رسول كريم وكتاب مقدس ؟ أخِياركم لأنفسكم وأتباعكم أم خيار الله جلّ وعلى لكم ؟ أليس المسيح رسول الله ؟ أليس الإنجيل كتاب الله ؟ إن لم تكن إجابتكم ببلى فلتراجعوا دينكم ومعتقداتكم.
يا سادة قليل من إعمال العقل ومقتضيات المنطق، فكيف لكم بتفسير شرع من قبلنا!! نحن كمسلمون ملزمون بالتوراة والانجيل إن لم نجد حلا لمسألة معينة، فكيف لنا نتعبد بكتاب سماوي ونحرم الاحتفال بمن نزل عليه هذا الكتاب !!
ولكيلا أوصم بالمجاملة وبفقدان الموضوعية وبعدم الحيادية وبالانحياز لفكر عقدي ضد الآخر، أقول وبملء فيه، نعم هناك تيار مسيحي متشدد، نعم هناك مسيحيون غلاة، وهم مدعون للتبرأ من ذلك وبالرجوع إلى جادة الصواب.
وليكن احتفالنا بميلاد السيد المسيح كاحتفالنا بميلاد خاتم الرسل والأنبياء، وليتنا نحتفل أيضا بميلاد موسى عليه السلام وليتنا نكف عن الاحتفال ببشر أنزلناهم منزلة الله وحده أعلم بها.
يا من تحرم الاحتفال بميلاد المسيح، والتهنئة بتلك المناسبة، فكيف كنت تقرأ قول الحق عز وجل (لا نُفَرِّق بَيْن أحدٍ من رُسُلِه)، فإذا ما احتفلت بمولد النبي محمد صلي الله عليه وسلم وجب عليك الاحتفال بميلاد السيد المسيح، كلاهما رسول وفق عقيدتك وكتابك المقدس يفرض عليك عدم التفرقة. صحيح العقيدة ومستقيم الفكر يقتضي منك تقديرا وتبجيلا لرسل الله وإنزالهم منزلة تليق بهم.
لم يعد هناك وقت لإضاعته في توافه الأمور، نحن في الألفية الثالثة وما زالت هناك عقول تعيش بفلسفة الألفية الأولى بل بما قبل الميلاد. إنها الجاهلية العصرية، والتجهيل الآني، ولننظر إلى الحضارة الغربية، وكيف أنهم أعملوا عقولهم فتقدمت شعوبهم وازدهرت أممهم، حق لهم رغد العيش وهنيئة المعيشة.
دعونا نصطف خلف صحيح الدين، وخلف الفهم الصحيح للقواعد الفقهية، الإسلام خاتم الأديان، وصلاحية نصوصه تكفل العيش السعيد الهانئ ليس فقط لمتبعيه ولكن للبشرية أجمع. وما مضمون الديانات السماوية سوى واحدا.. علينا أن نوصد الباب أمام الفكر المتطرف، ودعاة هدم الأوطان وشق الصف، وتمزيق خلايا النسيج الوطني، على الأسرة أن تراقب أبنائها وألا تدعهم فريسة لدعاة الفتن وهدم الأوطان، على الأسرة استشعار الخطر ودحضه على الفور.
الدولة مُلزمة بالضرب بيد من حديد على التشدد والشذوذ الفكري، ولا مجال لمواءمات سياسية في هذا الخصوص، فالحق أحق أن يتبع، ولا يشفع لفريق ساند النظام الحاكم ووقف بجانبه، أن يبث سمومه وينفث شروره ويبذر بذور الفرقة والتشرذم في أوصال المجتمع المصري.
ولندخر ميزانية الدولة ومواردها للتنمية الاقتصادية والرخاء للمصريين، بدلا من توجيه كل ذلك لمكافحة الإرهاب الذي نمى واستشرى بتغافل الدولة وعدم اضطلاعها بواجبها، فالوقاية خير من العلاج. الدولة مدعوة لنقاش المسكوت عنه، وعلاج المرض لا يأتي إلا بسلامة التشخيص، عليها أن تتحمل مسؤوليتها.
أُستعمل الشباب المُغرر به للإساءة للإسلام وأصبح الإرهاب يُنعت بالإسلامي في نظر البعض، فعندما يكبر القاتل حين يقتل الضحية، ويقول باسم الإسلام ولنصرة دين الله أفعل هذا... والإسلام منه بريء، كيف لدين وتحيتهم فيها سلام أن يكون دينا ارهابيا!! وكيف أن نقول إن الحروب الصليبية اُرتكبت باسم المسيحية !
فقط في مصر، كنيسة محمد علي وورشة محمد چورچ ومرضعة مسيحية لطفل مسلم ومرضعة مسلمة لطفل مسيحي، ونعش لمسيحي يحمله مسلمون، ونعش لمسلم يحمله مسيحيون، ومسيحي يسكب الماء ليتوضأ المسلم، ومسلم يحرس مسيحي في صلاته، وسرادق عزاء لمسيحية يستشهد فيها القسيس بآيات محكمات من القرآن الكريم... من منا لم ير مسيحيين على مائدة إفطار رمضان ؟ من منا لم ير الأسر المسلمة تهدي الكعك في العيد لإخوانهم المسيحيين ؟ لكم رأينا أسر مسيحية تعلق فانوس رمضان بل إن البعض المسيحيين كان يصوم مع إخوانه المسلمين. إنها مصر، ملتقى الأديان السماوية، أرض الإيمان والمحبة والتسامح... وستظل ... إنها البوتقة المصرية يا سادة التي صهرت هذا المعدن النفيس معا ونسجت خيوط ثوبه باقتدار. على الجميع أن يعلم أن مصر كانت وستظل للجميع وبالجميع.
مدعاة هذا المقال ومبتغاه، الدعوة إلى الاحتفال بميلاد المسيح، ولتكن مناسبة ميلاد السيد المسيح، مناسبة ألفة وتحاب وإخاء بين كافة الأديان وأيضا بين المذاهب والفرق المسيحية بعضها البعض.
فلندع الخلق للخالق، ولنتعايش سويا، ولنقتسم حاضر الأيام ومقبلها، حلوها ومرها، ونبني بلدنا، ولننبذ كل فكر شارد، وكل دعوات ظلامية، ولنحتكم جميعا إلى صحيح الدين. دعونا نعي المعاني السامية والأهداف النبيلة من إرسال الرسل، وليكن يوم ميلادهم يوم عيد وفرحة وبهجة. دعونا لا نحمّل الدين ما لا طاقة له به، دعونا نحيا عيشة هنية، دعونا نحفظ للدين قدسيته ونرعى رفعته، دعونا نؤمّن لأولادنا عيشة هانئة، بمحبة وسلام وتسامح.
دعونا ننبذ التطرّف والفكر المتشدد، دعونا نُعمل العقل، ليتنا نعلم ولو بالتقريب ميلاد رسل الله وأنبيائه، كي نحتفل بجليل تلك مناسبات، وكي نقتدي بهؤلاء الأخيار البررة وندْرس ونتعلم من صفوة المصطفون.
دعونا نحتفل بميلاد المسيح.
عيد ميلاد مجيد لكي يا مصر، عيد ميلاد مجيد للبشرية جمعاء... الله محبة، الله نور، الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ.
كل عام وأنتم جميعا بخير.