وقلباً كقلب يوسف
د . أسماء عبد الفتاح
منذ فترة ليست بالبعيدة كنت أنتظر القطار في محطة الجيزة ومعي أمي فجأة شعرت بإنقباضه وألم شديد في قلبي ذلك الألم يتكرر معي باستمرار منذ رحيل أخي، ودوماً يتبع ذلك الألم دموع حارقه والتي أقول لها تباً عندما تداهمني أمام الناس، وظللت أنظر في وجوه الناس وأنظر للسماء وأنظر لهاتفي وقلبي يرتجف وأقول في سري أين أنت لما تركتني وحدي أفتقدك كافتقاد الأرض لمن عليها يوم القيامة، وإذا بيدي تسحب لأسفل فإذا به طفل صغير لم يتجاوز الست سنوات فنظرت وجدته مبتسم ويقول لي (معاكي حلاوة) جاءت أمه خلفه مسرعة في خوف شديد اعتذرت وتأسفت لي بشدة وسحبته بعيداً فقولت لها أرجوكي اتركيه (محصلش حاجة) فقالت (أنا أسفة والله أصله تعبان ومبيعرفش بيعمل ايه اصله عيان) ، فجلست على ركبتي حتى أكون في مستوى طوله فحضنني بقوة كان واضح عليه المرض ورأسه شكلها غريب ومنبعج ومعصوبة بعدة لصاقات طبية ويده لا تتحرك , فحملته وقولت له :
- ما أسم الجميل ولم يعطني فرصة لأقول أكثر
قال :
- إسمي يوسف وكان يتحدث بصعوبة وأكمل :
عارفه أنا عندي سرطان في دماغي وشايفه دماغي مربوطة ازاي عشان عملولي عمليه في مستشفى ٥٧٥٧ وشالوا حتة كبيرة وقالوا إني مش هعرف أتكلم كويس ولا هعرف أمشي كويس ولا أحرك إيدي والحضانه طردتني برا عشان انا عيان هو العيان يعني ميتعلمش والله أنا هفهم حاضر وهعمل الواجب كله، بس هقولك سر، أنا هخف عارفه ليه عشان أنا بحب ربنا وهو حبيبي ومش هيزعلني وهتعلم وهبقى دكتور وهعالج كل الناس من المرض السرطان دة ، وأنا مش زعلان وحتى لو مخفتش أنا مش زعلان عشان ربنا بيحبني فلو خففني يبقى عايز خير ولو مخفتش يبقى خير لأنه بيحبني فأنا مش زعلان عشان هو حبيبي وإداني حاجات كتير حلوة أنا عندي عين بشوف بيها وحدة بس مش بشوف بالتانية وعندي اخوات وماما وبابا وفي هوا حلو وشمس كمان، والكيماوي دة وحش وحش وحش خالص خالص بس انا بعمل حاجة حلوة بتخليني محسش بيه عارفه إيه .
- قولتلو إيه هي قالي بغمض عيني وأقول الحمد لله لغاية ما يخلص وأنا قوي جداً شوفي في عندي إيد مش بتتحرك بس التانية قويه حاجة وحدة بس مش بحبها أنا بتعب من المشوار، ظل يوسف يتحدث بتلعثم وصعوبة وقوة في ذات الوقت وظللت أنا أتضائل أمام نفسي وكأن الله أرسل لي يوسف حتى أخجل من نفسي نظرت لأمه شابه صغيرة حفر على ملامحها الوجع وتعب السنين وكأنها عجوز تحارب الدنيا لتستمر، علمت منها أن زوجها مريض ولديها طفلان آخران وأنهما من بني سويف وتأتي للقاهرة لتعطي إبنها جرعة الكيماوي وتعود في قطار الركاب المهين لأنها على باب الله هي وزوجها، لم تطلب مساعدة ولم تحكي حتى تستدر عطفنا بل أنا وأمي من تمسكنا بالحديث معها وكانت تحاول أن تجعل إبنها يتوقف عن الكلام لتأخذه وتمشي حتى لا تتسخ ملابسي كما قالت وحتى لا تزعجنا كما تعللت بلطف وأدب، وهي لا تعلم أن ملابسي عندما لمسها كف يوسف المتسخ من تراب يوم طويل عانى فيه ما عانى قد نظفتني وغسلتني وجعلتني صغيره أمام عتبي لله المتواري خلف دموعي، لا تعلم أن ذلك الصغير لقنني درسا قوياً جعلني أرمي خلف ظهري كل شهاداتي وعلمي ونضجي وسنوات عمري وإدعائي بالإيمان والمعرفه، ومن يومها نعم أشتاق لأخي وأفتقده وأحتاجه وأتذكر وجعه من نفس مرض يوسف فأتألم ولكني لا أعتب على الله ولا أقنط من رحمته وكلما عصرني الحزن ليخرج غضبي كأنه شيطان رجيم أستغفر وأعود لله وأحمده وأستعين به، وكلما ضاقت بيا الدنيا لأي أمر أتذكر يوسف فأستغفر وأعود سريعا ليد الله التي لا تفلت عباده ولا تضيعهم، فأطمئن وأفوض قلبي إليه وأقول اللهم قلباً راضياً واثقاً كقلب يوسف.