ملف الحوار الوطنى.. رؤية مستقبل مصر السياسى
د. تامر خفاجي
لم تمس وثيقة رؤية مصر 2030 الجانب السياسى لإدارة البلاد، ولم تضع له استراتيجية مستقبلية ولا توقيتات. وحيث إننى أعتقد، بخبرتى، أن الحوار الوطنى هو حوار سياسى من الدرجة الأولى، فلابد أن تتوافر الإرادة لمراجعة مواد الدستور والالتزام بفلسفته، لأنه الوثيقة والمرجعية التى يجب أن تحكم حوارنا.
قد أنقذ جيش مصر البلاد من حكم فاشيستى تحت عباءة دينية كان سيُطْبق على رقاب المصريين وعقولهم. ومهمة الحكم الحاليّة أن يؤسس لاستدامة طريق التنمية لمصر العظيمة، ليس اعتمادًا على فرد، لكن على نظام مستدام، وتداول للسلطة بإرادة حرة للناخبين، واحترام لتوازن القوى داخل المجتمع المصرى.
وربما يكون الاهتمام الأكبر للمواطن الآن يتركز على فاعلية الحكم effectiveness، أى قدر الإنجاز والاستجابة لمطالب المواطن بغض النظر عن الفكرة الأيديولوجية التى يتبناها أى نظام.
إن تحقيق أكبر فاعلية للحكم يرتبط بوصول الأكفأ من خلال نظام يتيح ذلك، ويرتبط أيضًا بأهمية وجود نظام الرقابة والمساءلة للسلطة التنفيذية، وتحديد فترات للحكم لضمان التجديد فى الفكر وحيوية الأداء.
سياسيًا فإنه علينا أن نركز على العناصر التالية:
- فاعلية الحكم. - كفاء الحكام. - الرقابة والمساءلة المستقلة عن السلطة التنفيذية.
- نظام عدالة مستقل وفعّال. - نظام تعليم وثقافة يتيح للمواطنين بناء قدراتهم لتكون عندهم فرصة اختيار الأفضل، والمساهمة الفعالة فى الإسهام فى تنمية أنفسهم ومجتمعهم ـ الالتزام بتطبيق فلسفة الدستور، ومواده، وتوفير حقوق المواطنين.
إننا فى رؤيتنا لمستقبل سياسى يضمن استدامة التنمية، نبحث عن مبادرات تحقق أحلامنا بجمهورية مدنية حديثة، بتوازن بين القوى الحقيقية على أرض الواقع، مبادرة لا تَحرم البلاد من إمكاناتها الإنسانية ولا من مؤسساتها الفاعلة الوطنية، مبادرة تعطى للحرية مكانها واحترامها بضبط العدالة الناجزة التى لا تسمح للحرية بالتحول إلى فوضى، مبادرة تسمح لعموم الشعب بالاختيار الحر، وحسن الاختيار لممثليه فى البرلمان.
إن القوات المسلحة المصرية يجب ألا توضع سياسيًا أمام مسؤولية تحدى التنمية، وتفقد قيمتها المرجعية فى حالة الخروج عن الدستور والشرعية، أو الثورات الهدامة، إذا استدعاها الشعب، وعلينا الحفاظ على دورها فى الحفاظ على استقلالية مصر ضد أى عدوان، وعلى حماية الشعب والدستور عند الاحتياج.
لذلك فلابد من إيجاد صيغة جديدة تحترم توازن القوى ولكن لا تهدر قواعد الدولة المدنية، وهذا ما يجب أن يسعى إليه كل أصحاب المصلحة فى المجتمع، والكتابة حوله بلا حساسية ولا خوف.
إننا نعتقد أن نظام الحكم الرئاسى، الذى يتولى فيه الرئيس المنتخب سلطات واسعة للحكم، هو النظام الأمثل لمصر، بل هو الواقع السياسى منذ عام ١٩٥٢ رغم أننا ندعى غير ذلك.
لكن هذا النظام يؤدى إلى الاستبداد بالسلطة ما لم يكن محدد المدة بمدتين على الأكثر لا تزيد على اثنتى عشرة سنة، هو ما يؤكد عليه الدستور، ويكون ذلك اختيارًا دستوريًا غير قابل للتعديل.
النظام البرلمانى الأوروبى لا يناسب الشعوب التى تنتشر فيها الأمية والفقر. لكن يتوازى مع النظام الرئاسى الذى يعطى سلطات واسعة للرئيس، تمثيل برلمانى يضمن اختيار ممثلى الشعب بحرية، وهو الأمر الذى قد لا يجىء بأفضل العناصر نتيجة للفقر والجهل، لكنه واجب الحدوث، وإلا حرمنا الأغلبية من إبداء الرأى.
لذلك يصبح وجود غرفة أعلى أخرى للبرلمان، كما أقر الدستور المعدل، أمرًا حيويًا، لكن ليس بالطريقة التى تم تطبيقها فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة والتى استخدمت أسلوب القوائم المطلقة.
هناك تفصيلات كثيرة من الواجب دراستها، وأرى أن الحوار الوطنى قد يكون مؤهلًا لمناقشة ذلك لنتجنب تكرار الأخطاء السياسية التى وقعت فيها البلاد تكرارًا، وخلق إرادة فاعلة فى سلطة الحكم، ومساءلة السلطة التنفيذية عن المستوى المركزى والمستوى اللامركزى بدون إعاقة التنمية.
إن اللامركزية التى أقرها الدستور الحالى والسابق والأسبق، والتى يجب تطبيقها تدريجيًا، هى الوعاء الأوسع للاستماع إلى الشعب على مستوى القرية والمركز والمدينة والمحافظة، وقد يكون ذلك أيضًا مهمة الحوار الوطنى.
كل ذلك يجب أن يقام على عمودين أساسيين: التطبيق الناجز للقانون، وخطة تنمية إنسانية من خلال التعليم والرعاية الصحية لا يُسمح بالتراجع عنها تحت أى ظروف.
إذن متى وكيف تطبق الديمقراطية فى مصر؟
لاشك أن الانتخابات الحرة النزيهة هى جوهر الديمقراطية، وشرط ضرورى لها، إلا أنها قد تفرز حكومات محدودة الكفاءة قصيرة النظر، تهيمن عليها المصالح الخاصة، سواء الأيديولوجية أو الاقتصادية، وقد تفرز حكومات غير قادرة على تبنى سياسات تنهض بالمجتمع، لكن ذلك كله قد يجعل منها حكومات تفتقر إلى الكفاءة، لكنه لا يجعلها غير ديمقراطية.
إذن، علينا أن ندرك مخاطر تطبيق الديمقراطية فى مناخ غير مستقر أو فى غياب القدرة على الاختيار نتيجة الجهل أو الفقر أو كليهما فى آن واحد.
هنا يصبح السؤال بشأن متى وكيف أكثر من مهم.
كذلك، يجب علينا أن ندرك أن ما يسبق الانتخابات من توجيه للرأى العام، خاصة إن لم يكن محصنًا بالعلم والمعرفة، وأن جذبه أو تخويفه أو تهديده يؤثر على نتائج الانتخابات. ويضاف إليه قوة استخدام المال السياسى فى تحديد مسار الاختيارات فى مجتمع تصل نسبة الفقر فيه إلى أكثر من ٣٠٪.
أما ما يلى صندوق الانتخابات من احترام المنتخب للحريات والدستور والقانون والتوازن بين السلطات والتعرض للمحاسبة فهى أمور جوهرية فى تطبيق الديمقراطية، فالمسألة ليست فقط صندوق انتخابات.
ولعل تجربة انتخابات السيد محمد مرسى، ممثل جماعة الإخوان، رئيسًا لمصر كانت تطبيقًا عمليًا لشكل ديمقراطى سبقه وتلاه كل ما ذكرته من ظروف تضرب الديمقراطية فى مقتل.
إذن أين الرادع الواقى الذى يضمن الصلاح والاستقرار والاستدامة للديمقراطية؟ وكيف يمكن التطبيق فى بلادنا؟
فى الغرب، استقرت التقاليد عميقة الجذور فى حماية الاستقلال الذاتى للفرد وحقوقه وكرامته من إكراه، مهما كان مصدره سواء من جانب الدولة أو الكنيسة أوفى الغرب، استقرت التقاليد عميقة الجذور فى حماية الاستقلال الذاتى للفرد وحقوقه وكرامته من إكراه، مهما كان مصدره سواء من جانب الدولة أو الكنيسة أو حتى أغلبية المجتمع فى إطار يحمى حقوق الأقليات والحريات لأنه يستند إلى تزاوج بين الديمقراطية والحرية والنظام.
أما عندنا فمازالت هذه البديهيات غير مستقرة، فى إطار نظام تعليمى وثقافى لا ينمى هذا التوجه، ولا يجعله مستقرًا فى الوجدان المجتمعى.
وأُذكّر الجميع بأن الدستور، أبو القوانين، وُجد لينظم الحياة فى الدولة، ويتعاظم دوره كمرجعية اتفق عليها المجتمع عندما يحدث الخلاف بين الفصائل.
فى لحظات الخلاف والثورات، التى يركب خلالها الأكثر تنظيمًا والأقوى تمويلًا والأعلى صوتًا، تكون المرجعية الدستورية أكبر وأكثر أهمية، إلا أننا تعودنا عندما نمر بهذه اللحظة على أن نُسقط المرجعية ونلغى الدستور ويصبح مصير الأمة فى يد مالك الأمور فى هذه اللقطة التاريخية.
صحيح أن الحرية هى الضامن، لكن لا تمثلها الفوضى وإنما قدر من النظام. تحتاج الحرية إلى معالم إرشادية وأحيانًا قيود. إن الأمان الحقيقى للحرية يرتهن بقوة بعض الأسوار الحامية التى تحميها، وهذا ما أفرز الديمقراطية الليبرالية الحديثة عبر تراكم السنين فى الغرب، وهو الأمر الذى لا نملك أن ننتظره فى بلادنا طويلًا.
يجب علينا أن نستعيد التوازن بين الديمقراطية والحرية والحاجة إلى النظام، حيث تحتاج المجتمعات الديمقراطية إلى معدات ومعالم إرشادية جديدة مصحوبة للتصدى للمشكلات وظروف العصر الحالى.
يبدأ ذلك، وبلا تردد، بالعدالة والتطبيق الحازم للقانون دون انتقائية، وأن نفكر فى القانون باعتباره القيود الحاكمة الحكيمة التى تجعل المواطنين أحرارًا فى إطار حرية المجتمع كله، انبثاقًا من دستور يحترمه حقًا الحاكم والمحكوم.
بلادنا تحتاج إلى حكم قوى، وإلا انفرطت مؤسسات الدولة وتوقفت التنمية، أما ما الذى يضمن عدم التحول إلى الديكتاتورية إذا حدث هذا؟ فالإجابة لا تخرج عن شىء واحد ومهم، هو ضمان تداول السلطة سلميًا. فهذا ما يضمن استدامة التنمية وتراكم الخبرات.
وللحديث بقية مادام في العمر بقية ....وغدا افضل باذن الله