هناء شلتوت تكتب: مصر والسودان والأشقاء الثلاثة
فلا انفصلا ولا انحسرا، ولا اختلفا ولا اشتجرا، ولا هذى ولا تلك، ولا الدنيا بما فيها تساوى ملتقى النيلين في الخرطوم يا سمرا.
بهذه الكلمات وصف الراحل صلاح عبد الصبور، الخرطوم في قصيدته “أيا سمرا” بعد نكسة 1967، ويقال إن “عبد الصبور” كتبها خلال تواجده بالسودان وهي تمور بالثورة، مراقبا موقف الطبيعة عن كثب من مسافة تسمح له بالتأمل الهادئ، حيث اتخذ مفردة النيلين تكأة لامتداح الوحدة ورمزا لانتصار الوطن وإرادته، وهي القصيدة التي أغرت السوداني سيد خليفة وقام بتلحينها وغنائها وإلباسها زيا سودانيا أصيلا .
فلهجة السوداني عذبة وشعرية، من السهل أن يبهرك حضوره وطريقة حديثة، الابتسامة لا تفارق وجهه وتمتزج دوما بأحاديثهم، أفراحهم واحتفالاتهم وأغانيهم، خليط ممزوج بين الأدب العربي والأدب الأفريقي، تبهرك طلاقة ألسنتهم، بل وعذوبتها أيضا، إذا عاد للسوداني حبيب بعد غياب يقول له: “شوقنا بحر”، وعند إلقائه التحية واستقباله شخص يقول له: “حبابك عشرة بلا كشرة”، وذلك للتعبير عن الترحيب وبمعنى آخر أننا سوف نخدمكم بأصابعنا العشرة وبابتسامة أيضا، في اللقاءات المتقاربة من السهل أن تلحظ وده وطيبة قلبه، وجميعها صفات لمستها عن قرب في أشقائي السودانيين الثلاثة “محمد وعلي وهلالي”.
ففي العاصمة التونسية كان لقاءنا الأول، جمعتنا طرقات شارع الحبيب بورقيبة، وبدأ تعارفنا بصديقنا السوداني الإذاعي المستنير “علي نور”، من الوهلة الأولى تلاحظ بشاشة وجه “علي”، ورجاحة فكره، وعقلانيته، وفي ملامحه ترى أصالة السودان ورفعته، فقد منحتنا المشاركة سويا ضمن إحدى ورش العمل الصحفية الإقليمية، الفرصة لنندمج عن قرب مع زملاء من مختلف الجنسيات، ولا أبالغ كثيرا إن قلت إن السودانيين من أكثر شعوب الأرض ودا وخلقًا.
اقرأ أيضاً
- ”مصر للعلوم والتكنولوجيا” تعقد ملتقًا حول ثقافة التطوع والعمل الخيري
- ”QNB” يشارك في تحالف مصرفي من 13 بنكاً يمنح تمويلاً مشتركاً بـ18 مليار جنيه للمصرية للاتصالات
- البنوك المصرية تعلن توقف العمليات المصرفية بسبب التوقيت الشتوي في هذا الموعد
- وصول ثلاثى الزمالك إلى مطار القاهرة قادمين من الإمارات.. صور
- مصر تدين الهجوم الإرهابي على قاعدة عسكرية للجيش التشادي
- عمال مصر يحتفل بذكرى انتصارات اكتوبر ”غدا الخميس”
- الأهلى يهيمن على الأرقام القياسية قبل انطلاق النسحة 66 من الدوري
- طلائع الجيش يستضيف المصرى بالسويس
- أنشطة جناح الأزهر تجذب زوار معرض مصر بالأكاديمية العسكرية
- باحث بمرصد الأزهر: الشذوذ يدفع الإنسان لممارسة العنف ورفض الآخر
- السفير السوداني بالقاهرة في حوار مفتوح بنقابة الصحفيين غد الخميس
- مصطفى مدبولى : الشراكة السعودية - المصرية التي تتسم بالخبرة والعمل المشترك في مجالات متعددة
لم يختلف على “محمد وعلي وهلالي” اثنان من بين كل الزملاء المشاركين في ورشة العمل، فقد تجاذبنا أطراف الحديث مع “محمد هلالي” تارة، و “محمد عبد العزيز” تارة، و “على نور” تارة أخرى، لم أجد منهم إلا كل لطف وأخوة وشعور بأنني وسط أهل لا زملاء مهنة واحدة فحسب.
حرص صديقنا “هلالي” الصحفي السوداني المتميز طوال الوقت على التقاط الصور التذكارية لنا، ورغم أنه دوما يحتفظ بها لنفسه دون مشاركتها معنا، إلا أننا لم نتراجع في كل مرة نلتقي فيها عن تكرار الأمر الذي ينتهي دوما بضحكات الجميع، نظرا لحرصه وحرصنا معه على إعادة التقاط صورا لن نحصل عليها أبد الدهر.
حكى لي هلالي عن صداقته القوية التي تجمعه بإحدى زميلاتي الصحفيات في مصر، وأعرب لي عن سعادته بتلك الصداقة التي جمعته بزميلتنا خلال عملهما سويا مع إحدى المؤسسات الدولية، وهذه هي طباع “هلالي” الاستثنائي في أخلاقه دوما عند الحديث عن زملائه.
ومن “هلالي” إلى “محمد عبد العزيز” المحلل السياسي والعضو البارز في نقابة الصحفيين السودانيين، فالحكايات لا تنتهي، فهو “محمد” الذي تستطيع أن تأخذ منه حكمة “أفلاطون” في السياسة، وبلاغة “الفرزدق” في الحديث، وفكاهة “هنيدي” في الحكي، جمعتني بـ “محمد” طاولة واحدة في غالبية ورش العمل، لمست فيه روح المصري الصعيدي، الذي نصفه بـ “ابن البلد” في لهجتنا، فهو الشهم، الودود، دمث الخلق، المنتفض لكرامة مهنته وحرية وطنه.
بين عشية وضحاها ألم بالسودان الحبيب ما ألم “حروب ونزاعات”، طبول الحرب تدق في كل جانب، طلقات الرصاص تستهدف المدنيين المسالمين، تفاقم الوضع الإنساني في السودان وخلف موجات نزوح كبيرة بعد مقتل العشرات وإصابة الآلاف، لم يتوقف الأمر عند معارك الرصاص، حيث نشبت في المقابل معارك أخرى لا تقل ضراوة عن نيران المدفعية، فهذا صوت التراشق بالكلمات القاسية بات يجوب وسائل التواصل الاجتماعي منذ بداية الحرب الدائرة في السودان ونزوح الأشقاء السودانيين إلى أبواب مصر “المحروسة” التي طالما احتضنت أشقاؤها وقت الأزمات، وهذه تقارير صحفية تعكس حالة التعصب التى نثرها نشطاء من الجانبين عبر حساباتهم الشخصية دون حياد أو مهنية تذكر.
ومن هنا بدأ صراع من نوع آخر، سيلا من المزاعم الواهية والاتهامات المتبادلة، وخطاب محفوف بالتطرف والكراهية تارة والتنمر تارة أخرى، فهذا سوداني يروج لفكر “الأفروسنتريك” ويدعى أحقيته للحضارة المصرية، وهذا مصري رافض لاستقبال السودانيين في مصر بزعم أن المهاجرين سينقضون على خيرات بلده، وبين هذا وذاك، كان هناك مصريين آخرين في أسوان الطيبة على الحدود عند معبر “أرقين” البري يستقبلون أشقاءهم النازحين من السودان بالحلوى والهدايا، في ظل التسهيلات التي قدمتها الدولة المصرية والسماح للسودانيين بدخول الأراضي المصرية دون تأشيرة دخول.
وشئنا أم أبينا فبحكم التاريخ والجغرافيا، والعادات والتقاليد والأنساب، تمتزج السودان ومصر منذ القدم عبر شرايين النيلين الأبيض والأزرق ليكملا بعضهما البعض، حيث ينبع نهر النيل من منبعين رئيسيين هما النيل الأبيض والنيل الأزرق، ويعطي كل منهما الحياة الدائمة لنهر النيل، فتراثنا متقارب وطقوسنا الحياتية تتشابه كثيرا، ففي القاهرة تجد شارعا من أشهر الشوارع المصرية يحمل اسم “مصر والسودان”، وهو شارع تاريخي رئيسي بحي حدائق القبة بالقاهرة، يربط بين قصر القبة الجمهوري وميدان كوبري القبة شمالا، تم تسميته بهذا الاسم منذ عقود تعبيرا عن وحدة البلدين، وفي السودان تجد “شارع القاهرة” في أرقى أحياء الخرطوم “حي العمارات”، وهو شارع عمودي يُفضي إلى شارع آخر يحمل اسم أول رئيس لجمهورية مصر العربية، الرئيس “محمد نجيب”، الذي ولد عام ١٩٠١ في العاصمة السودانية “الخرطوم”.
وكما قال الشاعر “صلاح عبد الصبور” في قصيدته: “أيا قدران في مجرى، تبارك ذلك المجرى، فيمناه على اليسرى، ويسراه على الأخرى، فهذا الأزرق العاتي تدفق خالدا حرا، وهذا الأبيض الهادي يضم الأزرق الصدر، ولا هذه ولا تلك، ولا الدنيا بما فيها تساوي رقصة الخرطوم يوم النصر يا سمرا.
فمن مصر للسودان سيظل رجاءنا أن تضحك سماؤك قريبًا يا “خرطوم”، وستبقي أرواحنا مشتاقة للسلام، وكل شيء يخص دارفور وأم درمان.