رضوى رحيم تكتب : حكايتي مع تكية الست زكية ، و سر الوصية !!
مصر المحروسة، تلك الأرض التي عُرِفَت منذ الأزل بكرمها وجودها، منبع الخيرات، حيث يمتزج عبق المسك والعنبر بتراتيل القرآن وتمتمات الدعاء عند أضرحة آل البيت والأولياء الصالحين. في قلب منطقة الجمالية بحي الحسين، تنبض القلوب بحب آل البيت وتفيض سلوكيات المصريين بعشق نقي طاهر، خالٍ من أي أغراض سياسية أو مذهبية، بل هو محبة صافية وفاءً لقرابة دم برسول الله وأصحابه.
في هذا الجو المفعم بالإيمان والتقوى، تقف تكية الست زكية شاهدة على قصة عطاءٍ قديمة وأصيلة، تحكيها جدرانها وروحها التي ما زالت ترفرف في المكان .
مكان ينادي ضيوفه !
الزمان في عام ٢٠٢١ و بينما أغلقت معظم أبواب الرزق في العالم و حددت أقامه البشر جبريا في عزلة فرضها فيروس كورونا و شبح الموت الغامض ، تخيل ! قوانين العالم هذة كانت تذوب و تتلاشى علي باب تكية الست زكية .
صمتٌ مَهيبٌ لا يقطعُه إلا وقعُ أقدامٍ تحملُ خيراتِ اللهِ من الطعامِ الموهوبِ لكلِّ عابرِ سبيلٍ و محتاجٍ أو غريبٍ. فالمكانُ ينادي ضيوفَه.. و للخيرِ بوصلةٌ تشيرُ إلى تكيةِ الحاجة زكية في دربِ الطبلاوي بحيِّ الحسينِ.. خيرٌ عمرُه في هذا المكانِ أكثرُ من ثمانين عامًا.
رغم خُلوِّ التكيةِ من جثمانِ الحاجة زكية التي رحلَت عن عالمِنا في ثمانينياتِ القرنِ الماضي إلا أن سيرتَها المُعطَّرةَ برائحةِ المسكِ و العنبرِ والبخورِ و روحَها الزاهدةَ وثوابَ نِيَّتِها المخلصةِ ما زالَت مُعمِّرَةً في المكانِ وأورثَتْه السكينة.
بنت الأشراف وبشرة السيدة نفيسة
السيدةُ زكية بنتُ السيدِ عبد المطلب وُلِدَت عامَ 1900 لوالدين من الأشرافِ و قد وَرِثَت من أجدادِها في مسقطِ رأسِها بالمنزلةِ فضلَ إطعامِ الطعامِ و حملَتِ العهدَ من الشيخِ الإمامِ أبي الحسنِ الشَّاذِليِّ القُطْبِ الصوفيِّ الجامعِ وأُمِرَتْ في رَوِيَّةٍ مباركةٍ أن تتركَ بيتَها وأهلَها و تسكُنَ عند أعتابِ الحسينِ بالقاهرةِ فأطاعت و تركت الأهلَ و البيتَ و السندَ؛ لتجدَ الوَنَسَ مع اللهِ في ساحتِها، فأطعمَت الطعامَ على حبِّه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا، فكان بالنسبةِ لها و لِمَنْ بعدَها من نسلِها مِفتاحَ السعادةِ و قضاءَ الحاجةِ.
تزوجت السيدة زكية من ابن خالتها الشيخ محمد المهدي عساسة من علماء الأزهر و لم تنجب لمدة ١٨ سنة ثم رأت(السيدة نفيسة رضي الله عنها )في المنام و بشرتها أنها ستنجب ابنة و قد كان ، و جاءت نفيسة ..فحملت النفيسة نفس الرسالة بشذاها الذكي وورثتها لاولادها و احفادها .
تستدعي أطلالُ ما تَبقَّى من التكايا في مصرَ فكرةَ الدراويشِ في الذاكرةِ الشعبيةِ كما مثَّلَتها الدراما المصريةُ في صورةٍ ذهنيةٍ عن فقراءَ مُهمَّشين عاجزين حتي عن توفير قوت يومهم ، رغم أن هذه الأماكنَ كانت تُمثِّلُ نَموذجًا فريدًا من نماذجِ الثقافةِ الاجتماعيةِ باعتبارها مركزًا للإشعاعِ الروحيِّ و الفكريِّ والفنيِّ فتضمُّ مسجدًا للصلاةِ دون مِئْذَنةٍ و قاعةَ خَلْوَةٍ و ديوانًا للاجتماعِ و غُرُفًا للضيوفِ و ساحةً كبيرةً للطعامِ وأروقةً للإطعامِ.. هكذا كانت التكيةُ قديمًا كما حافظ عليها نسل العارفةِ باللهِ السيدة زكية بدايتها من ابنتها و احفادها و أهل المكان من القائمين عليه .
كلُّ واحدٍ من أهلِ التكية الست زكية يؤدِّي عملَه بإخلاصٍ و دَأبٍ فمعَ أذانِ العصرِ كلَّ يومٍ يكونُ الطعامُ جاهزًا و مغلفًا و ينتظرُ أصحابَه في طقسٍ مباركٍ لم ينقطعْ يومًا و لم تُفلِحْ ظروفُ الكورونا أو أيُّ متغيراتٍ اقتصاديةٍ في إعاقةِ الأيادي البيضاءِ من أن تأتِيَ في ميعادٍ لا يتغيرُ مرتين في اليومِ؛ ليستقبل الوافدين بتَرحابٍ علي و أختُه الجيلُ الثاني من أحفادِ السيدةِ زكية يزرعان بذورَ برٍّ وجبرَ خاطرٍ لتطرحَ في حياتِهم البركةَ .
التجارة مع الله
سألت المهندس أحمد ابن السيدة نفيسة الأصغر يومها عن كيفية توفير الامكانيات المادية و العينية للوفاء بالواجب المفروض ؟ قال بابتسامة صافية رزق الله لا يعلمه إلا الله الرزق يأتي في وقته لأهله و حكي لي انه في مرة حدث عجز و كان قد قرر بأسف ان يجعل لهذا اليوم وجبة واحدة فتفاجأ بأشولة من الارز و الخضراوات هبة من متبرع مجهول ، نفحة لأحباب السيدة زكية و المتعشمين في كرمها و لذلك هو لا يحمل هما في المتاجرة المخلصة مع الله سبحانه و تعالي .
بعد كل ما سمعت و رأيت ، كان كلي شوق لرؤية السيدة نفيسة كنت أريد التماس البركة و الراحة في وجودها و بالفعل سمحت لي بالدخول لصومعتها ، استقبلتني بابتسامة دافئة ووجة مشرق كالصباح ناصع البياض كأعمالها ، صحيح كانت فاقدة البصر لكن متقدة البصيرة سألتني عن أحوالي و صحتي و عن أهل بيتي دون أن اذكر لها عني شيء و حكت لي عن أمها السيدة زكية رضوان الله علي مقامها و كيف جعلت من الزكاة و الاطعام قانون لبيتها و التزام مع الصلاة و الإبتهالات و كيف جمعت بين الحزم و الحنان كيف عاشوا بكلمة الله و يسيرون علي خطي الراحلين الإشراف و يصلون الرحم بخاتم المرسلين و أكرم الأكرمين رسولنا الكريم محمد صلي الله عليه و سلم . سمعت منها ووصتني أن اهم شيء في الحياة تعليم الاجيال حب الله و العطاء و الاطعام لانه بركة كل بيت و مفعوله كالسحر ، حضنتها و قبلت يدها و انا لا اريد ان افارقها فكأنها غسلت وجداني و محت عني مخاوفي .
رحيل حزين
كيف رأت قلبي ؟ سبحان الله!! طبطبت علي روحي بنقائها و هي لا تراني .
مرت سنوات و انا اتذكرها و كل مرة انوي الزيارة شيء يعطلني الي أن فوجئت بحفيدها يكتب نعيا لجدته البارة سليلة الإشراف..، حزنت و لكن من هم مثلها لا خوف عليهم و لا هم يحزنون ، لكن البركة مستمرة بأمر الله في زرعتها الطيبة و تركتها من أولادها و احفادها الحافظين للوعد و الأمر الإلهي.. رحم الله الحاجة نفيسةالمهدي العساسة ابنة الحاجة زكية بنت عبد المطلب رحمة واسعة و الحقها بأهلها من الصالحين في جنات النعيم .
مَن سارَ على خُطَى الحبيبِ لا يضلُّ و لا يخيبُ فتبقَى التكيةُ و غيرُها من مظاهرِ التكافلِ الاجتماعيِّ هي تحقيقًا فعليًّا لعدالةٍ إنسانيةٍ متفرِّدةٍ فرغمَ كلِّ الأزمات و المحنِ تحيا مصرُ كلَّ مرة من جديدٍ لتعودَ بهيةً أبيةً آمنةً. هل ما زلتم تسألون ما السرُّ و لماذا لُقِّبَت بالمحروسةِ؟ سرُّها و خيرُها يكمنُ في بيوتِ كرمٍ و ابتسامةِ سَتْرٍ و جَبْرِ خاطر.