من التاريخ.. معركة اليرموك
- أحمد صوانبدأت فتوحات المسلمين في أعقاب وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومبايعة أبو بكر الصديق خليفة للمسلمين، وفي أعقاب ثورة العديد من القبائل العربية -ما عُرف لاحقاً بحروب الردة- ليتمكَّنَ الخليفة الأول من توحيد الجزيرة العربية.
بدأ الخليفة الفتوحات بالعراق، البلد الأغنى للإمبراطورية الفارسية، وكان ذلك على يد أكثر القادة عبقرية ودهاء وهو خالد بن الوليد، الذي تمكن من تأسيس معقل قوي في العراق، ليبدأ بعدها الخليفة في التفكير في فتح الشام، والذي كان سلسلة من العمليات العسكرية المخططة بعناية والمنسقة، واستخدمت فيها الإستراتيجية بدلاً من القوة المجردة للتعامل مع مقاييس الدفاع البيزنطية.
تبين للجيوش الإسلامية بأنها أقل من اللازم للتعامل مع الرد البيزنطي، وطلب قادتها التعزيزات، فأرسل أبو بكر -رضي الله عنه- خالد بن الوليد من العراق إلى الشام مع التعزيزات ولقيادة الجيوش؛ وهُزم البيزنطيون بشكل حاسم في معركة أجنادين، وسقطت مدينة دمشق، وتبعها معركة فحل، حيث هُزمت وهلكَت آخر المعاقل العسكرية الهامة للبيزنطيين في فلسطين.
توفي الخليفة أبو بكر الصديق، وقرر خليفته عمر بن الخطاب، والذي كان أول من لقّبه المسلمين بـ"أمير المؤمنين"، إكمال توسعة الخلافة الإسلامية في الشام؛ وبالرغم من أن حملات سابقة ناجحة قادها خالد بن الوليد، إلا أنه تم استبداله بأبي عبيدة بن الجراح، ليتقدم بالقوات الإسلامية إلى الطريق التجاري، حيث سقطت طبريا وبعلبك دون عناء كبير، وبعدها غزا المسلمون مدينة حمص في طريق غزوهم الشام.
كان سقوط حمص وبعلبك سريعاً بعد فتح دمشق، وأصبحت مقاومة الروم لجيوش المسلمين ضعيفة، وبعد فتح دمشق، وخلال محاصرة حمص قبل فتحها، بدأ هرقل في حشد كل قواته في أنطاكية وشمال الشام استعداداً لمعركة حاسمة، بعد أن تمركز في مدينة أنطاكية على أطراف الشام الشمالية لإدارة الحرب من هناك؛ وقد بدأ حركة تجنيد إجباري في كل أنحاء الإمبراطورية البيزنطية، فأرسل الأوامر إلى عماله على الولايات بتجنيد كل رجل بلغ الحلم في الإمبراطورية؛ ويقول الرواة في وصف الجيوش البيزنطية السائرة إلى معركة اليرموك "فأقبل إليه من الجموع ما لا تحمله الأرض".
لم يكن هرقل يود في البداية خوض المعركة، غير أن أهل الجزيرة وقنسرين وشمال الشام أصرُّوا عليه، فقبل بقتالهم في حال ظهورهم، وإلا عاد إلى القسطنطينية، وولى ماهان قيادة الجيوش، وأعطاه لذلك مائتي ألف درهم، ثم أعطى مائة ألف درهم أخرى لكل قادته، وخطب فيهم قبل المعركة قائلاً "يا معشر الروم، إن العرب قد ظهروا على الشام ولم يرضوا بها حتى تعاطوا أقاصي بلادكم، وهم لا يرضون بالأرض والمدائن والبُر والشعير والذهب والفضة حتى يَسبُوا الأخوات والأمهات والبنات والأزواج ويخذوا الأحرار وأبناء الملوك عبيداً. فامنعوا حريمكم وسلطانكم ودار مملكتم".
عرف أبو عبيدة مبكراً تحركات الروم كلها، وبخطتهم وخطوط سيرهم؛ غير أن قادتهم اختلفوا حول الخطة المناسبة لمواجهة الموقف، وحسب رواية ذكرها الأزدي -غير موثوق من صحتها تماماً- فقد رأى يزيد بن أبي سفيان إدخال النساء والأطفال إلى مدينة حمص، فيما تدور المعركة مع الروم خارج المدينة، غير أن شرحبيل خشي أن يغدر أهل حمص بالمسلمين إن غلبوا، وأن يذبحوا نساءهم وأطفالهم، واقترح لذلك أبو عبيدة إخراج أهل حمص وإدخال المسلمين مكانهم، فاعترض شرحبيل لأن ذلك يخالف شروط الصلح؛ وأخيراً طرح ميسرة بن مسروق العبسي الانسحاب إلى أطراف الشام، وانتظار التعزيزات من الخليفة، وأجمع الحاضرون على هذا الرأي.
ضمَّت جيوش البيزنطيين في معركة اليرموك عرقيات كثيرة، بينها الروس والسلاف والفرنجة والروم والإغريق والجورجيون والأرمن والعرب النصارى؛ ووزعت قواتهم هذه على خمسة جيوش متساوية الأعداد؛ وليس معروفاً على وجه التحديد من كان القائد الأعلى للجيش، فمن الروايات الشائعة أنه كان الملك الأرمني فاهان -غير أن ذلك ليس مؤكداً تماماً- كما اختلف المؤرخون كثيراً في تعداد جيوش الروم في معركة اليرموك أقلها مائة ألف وأكبرها أربعمائة ألفاً؛ وأما جيوش المسلمين فقد كانت قليلة بالمقارنة مع الجيوش البيزنطية، حيث تألفت قوات المسلمين الأصلية التي دخلت الشام للفتح من أربعة ألوية مجموع جنودها أربعة وعشرون ألف مقاتل، ثم ازدادوا قليلاً بعد وصول بن الوليد من العراق للنجدة في معركة أجنادين؛ وكان بين هؤلاء ألفاً من الصحابة، وحوالي مائة ممن شهدوا غزوة بدر.
وكان جيش المسلمين مقسماً إلى أربعة مجاميع، واحد تحت قيادة عمرو بن العاص في فلسطين، وواحد تحت قيادة شرحبيل بن حسنة في الأردن، والآخر تحت قيادة يزيد بن أبي سفيان ضمن منطقة دمشق، والأخير تحت قيادة أبو عبيدة بن الجراح جنباً إلى جنب مع خالد بن الوليد في مدينة حمص.
اكتشف المسلمون استعدادات هرقل عن طريق الأسرى الرومان، فدعا خالد بن الوليد إلى مجلس الحرب، وأثناء عقد المجلس تم عزل خالد من قبل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وتولى الجيش أبوعبيده بن الجراح؛ حيث نصح بن الوليد القائد الجديد بسحب القوات من فلسطين ومن شمال ووسط سوريا ومن ثم توحيد جميع جيوش المسلمين في مكان واحد، وأمر أبو عبيدة بتجميع الجنود في السهل الواسع قرب جابيا، حيث التحكم بالمساحة يجعل هجمات الخيالة ممكنة وأيضاً يمهد لوصول التعزيزات من الخليفة.
دامت المعركة ستة أيام، كان المسلمون فيها يردون هجمات الروم في كل يوم، حيث كان خالد بن الوليد يستخدم سرية الخيالة المتحركة السريعة التي يقودها بنفسه ليتحرك بسرعة خاطفة من مكان إلى آخر حيث يكون جيش المسلمين في تراجع تحت ضغط الروم، ويعود كل من الجانبين في نهاية النهار إلى صفوفه الأولية قبل القتال أو إلى معسكراته.
وجرى الأمر كذلك خلال الأربعة أيام الأولى كانت فيها خسائر الروم بالأعداد أكبر من خسائر جيش المسلمين، وفي اليوم الخامس لم يحدث الشيء الكثير بعد رفض خالد هدنة ثلاثة أيام التي عرضها الروم بقوله المشهور لرسول الروم "نحن مستعجلون لإنهاء عملنا هذا"؛ وفي اليوم السادس تحولت استراتيجية خالد من الدفاع إلى الهجوم، وتمكن بعبقريته الفذة من شن الهجوم المجازف على الروم واستخدام الأسلوب العسكري الفريد من نوعه آنذاك وهو الاستفادة الصحيحة من إمكانيات سرية الفرسان سريعة التنقل ليحول الهزيمة الموشكة للمسلمين إلى نصر مؤزر لهم.
لم يتواجد خالد بن الوليد مساء اليوم السادس بعد إحراز النصر، بل شوهد مساء اليوم التالي في المعسكر، فقد تابع وفريقه الفلول المتجهة إلى دمشق، وكانت العادة السائدة آنذاك أن المعركة تنتهي بهرب الجيش المنكسر، فكان آخر ما توقعه المنهزمون هو متابعة خالد لهم، واشتبك معهم ليُقتل قائدهم على يد أحد المسلمين.
كانت معركة اليرموك من أعظم المعارك الإسلامية، وأبعدها أثراً في حركة الفتح الإسلامي، فقد لقي جيش الروم، أقوى جيوش العالم يومئذ، هزيمة قاسية، وفقد زهرة جنده، وقد أدرك هرقل الذي كان في حمص حجم الكارثة التي حلت به وبدولته، فغادر سوريا نهائياً، وقد ترتب على هذا النصر العظيم أن استقر المسلمون في بلاد الشام، واستكملوا فتح مدنه جميعاً، ثم واصلوا مسيرة الفتح إلى الشمال الإفريقي.