هناء شلتوت تكتب: لكم دينكم وللتيجاني دين
في أعماق القاهرة العتيقة، حيث تتداخل أنغام الموالد وأهازيج الذكر مع صخب الحياة اليومية، تكمن قصة طويلة ومعقدة للطرق الصوفية، والتي تعد جزءًا لا يتجزأ من التراث الثقافي والديني المصري، قصة تمتد لقرون، شهدت صعوداً وهبوطاً، جدلاً واحتفالاً، إلا أن هذا المشهد كان على موعد مع تحولات جذريّة، حيث تحتدم المعركة بين الحفاظ على التقاليد العريقة والانفتاح على العصر، وكيف تستطيع الطرق الصوفية أن تجد توزنا لها بين هذين القطبين، ففي زمن الفردانية والبحث عن الهوية وباعتبار رموزها حراس الأخلاق والفضيلة تنجذب ملايين القلوب سرا إلى سحر الطرق الصوفية بحثاً عن الأمان والاستقرار الروحي.
ففي حين تجذب الأضواء المتلألئة، وأنغام الطرق الصوفية، المريدون من كل صوب وحدب، لتحتشد الأزقة وتمتلئ ساحات المساجد والمقامات عن بكرة أبيها، تكمن خلف هذا المشهد الروحاني قصص جدلية للطرق الصوفية في مصر، وذلك على الرغم من اعتبارها منهجا سلوكيا يهدف إلى تقريب العبد من ربه عن طريق ممارسة الزهد والعبادة والتأمل، فقد ذاع صيت الصوفية وانتشرت في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، ولكنها لاقت شهرة وقبولا أرحب في مصر والمغرب.
وتختلف الآراء حول دور الطرق الصوفية في المجتمع، فهناك من يرى أنها لعبت دورًا إيجابيًا في نشر قيم التسامح والمحبة والزهد، وهناك من يراها أنها أدت إلى بعض الممارسات الخرافية والشركية.
وقد ساهمت عدة عوامل في انتشار الفكر الصوفي وتطوره في مصر، أهمها عاملين الأول اجتماعي: يكمن في توفيرها بيئة اجتماعية داعمة للأفراد، خاصة الفقراء والمهمشين، مما جذب الكثيرين إليها، والثاني ديني: حيث تقدم الطرق الصوفية تفسيرات عميقة للدين الإسلامي، وجذبت الكثيرين الذين يبحثون عن تجربة روحانية أعمق.
فلدينا "الطريقة القادرية" وهي من أقدم الطرق الصوفية في مصر، وتنسب إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني، و"الطريقة الشاذلية" التي أسسها أبو الحسن الشاذلي، وهي من أوسع الطرق انتشارًا في مصر والعالم الإسلامي، وكذلك "الطريقة الرفاعية" وقد أسسها أحمد الرفاعي، وهي معروفة بزهد أتباعها واعتمادهم على الكرامات، إلى جانب "الطريقة البدوية" التي أسسها أحمد البدوي، وهي من أبرز الطرق الصوفية في مصر، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالاحتفالات والموالد، وغيرهم الكثير.
اقرأ أيضاً
- استياء بين أولياء أمور كفر صقر.. مدير التعليم الثانوي يضرب بقرارات الوزير عرض الحائط
- السيسي يؤكد الحاجة إلى مضاعفة جهود الدولة لبناء الإنسان وترسيخ القيم لمواجهة الأفكار الهدامة
- وزيرة التضامن تفتتح أعمال تطوير مجمع خدمات متعددي الإعاقة بالطالبية
- محمد صبحي يواصل تقديم مسرحيته ”فارس يكشف المستور”
- التعليم الفلسطينية : استشهاد 11 ألف طالب وإصابة 17 ألفًا منذ 7 أكتوبر
- وزير الاستثمار يستقبل نظيره المجري لبحث سبل تعزيز العلاقات الاقتصادية المشتركة بين البلدين
- وزير الاستثمار: خطة الإصلاح الاقتصادي ساهمت في استعادة مصر لمكانتها على خريطة العالم
- ارتفاع أعداد المصابين جراء الأمطار الغزيرة والسيول بمدينة سبها الليبية لـ39
- 25 سبتمبر، انتهاء اختبارات المتقدمين لوظائف معلم مساعد مادة (اللغة الإنجليزية)
- الأهلي يفوز على جورماهيا الكيني بثلاثية ويقترب من دور المجموعات
- نادين نجيم توجه رسالة شكر لغادة عبد الرازق
- مواعيد مباريات اليوم الأحد والقنوات الناقلة..أبرزها الأهلي وجورماهيا الكيني
ولكن، هل تستطيع هذه الطرق الصوفية أن تلبي احتياجات الناس في عصر باتت سمته الرئيسية الحداثة والتطور؟ وما هو دور شخصيات مثل سماحة القطب الأعظم "صلاح الدين التيجاني" أحد رموز مشيخة الطريقة التيجانية -كما يلقبونه- والذي حظي بشهرة واسعة بين أتباع الطريقة، وبرز اسمه للعوام بين عشية وضحاها؟.
فالمتتبع لسيرة التيجاني الذي لقب نفسه بـ"محدث العصر" و "ابن نور الله "، وأتي بخرافات لم يأت بها أحد من قبل سيجد أن هذا الوهج وهذه الهالة المنسوجة حوله لم تدم طويلاً، ففي عام 2017 وقع الحدث الذي قلب الموازين، حيث أصدر الشيخ محمد الحافظ التجاني، شيخ الطريقة، قراراً بفصل صلاح الدين التيجاني، وكان السبب -حسب ما أعلن- هو محاولات التيجاني الانفراد بالطريقة وتأسيس فرع جديد لها، الأمر الذي اعتبر خروجاً على العرف والتقاليد.
لم يستسلم التيجاني، بل قرر المضي قدماً في طريقه، وأسس "الطريقة الصلاحية التجانية"، وحاول جاهداً الحصول على اعتراف رسمي بها، إلا أن محاولاته باءت بالفشل، ولكن لم يثنه هذا عن الاستمرار، فاستطاع أن يجذب إليه عدداً كبيراً من الأتباع والمريدين الذين بث في نفوسهم أفكارا مبتدعه لعل أهمها "لا تُشرك بحب شيخك أحداً" و" إذا نظرت لشيخك وأنت جوعان أو عطشان ولم تشبع فأنت غير صادق!"، والفاجعة أن من بين مريديه شخصيات مرموقة وعلى رأسها مشاهير الفن والثقافة والأدب، الذين يمررون بدورهم أفكاره إلى غالبية فئات المجتمع باعتبارهم النخبة المؤثرة.
وما بين اتهامات وادعاءات بالتحرش والفساد والانشقاق عن أهداف طريقته تصدر اسم "صلاح الدين التيجاني" واجهة الأحداث من جديد، لينكشف جانب مظلم لم يكن متوقعًا في شخصية دينية تحظى بقبول واسع، وله مريدين يطلبون المدد بدءا من صفوة المجتمع حتى فقرائه.
وأنا هنا لست بصدد توجيه أحكام مسبقة، ولا السير مع مآلات "الترند"، ولا الدفاع عن "خديجة.خ" الفتاة التي لم يسمع بها أحد من قبل -المدعية ضد التجاني- بعد أن كالت له من الاتهامات الأخلاقية بالعربية والإنجليزية ما يندي له الجبين، ولست أيضا بصدد الوقوف أمام ردة فعل "والدة خديجة" المفعمة بكم هائل من الجمود وفقدان مشاعر الأمومة! وتبرأتها لصاحب الكرامات على حساب ابنتها، حتى وصل بها الأمر إلى اتهامها بالاضطراب النفسي بدلا من احتوائها، ولست كذلك بصدد الوقوف أمام بيان "التبرؤ" من "التيجاني" الذي أصدرته مشيخة الطريقة التجانية مذيلا بتوقيع شيخها.
ولكنني سأقف ألف مره أمام محاولات طمس سمات التدين الصحيح التي من أهمها التقرب إلي الله وحده، وليس تصنعًا لمخلوق، أو اكتسابَ محمدة عند الناس، فالمتدين حقًّا غايته رضا الله، يعبد الله كأنه يراه، وأفعاله وأقواله موجهة لله وحده ابتغاء الأجر والثواب، فلا يتاجر بالدين ولا يستغله للوصول إلى تحقيق مآربه.
كما سأقف إلى ما آلت إلية هشاشة المجتمع والعلاقات الأسرية وسبل التربية التي أفرزت صيدا ثمينا لكل من ينصبون أنفسهم أصحاب كرامات، ويستقطبون أجيالا تحت ستار الدين لفكر هلامي ما أنزل الله به من سلطان، وظهور نوع جديد من التصوف العاطفي الذي ينمو في بيئة تتسم بالتفكك والجفاء وغياب الآباء عن الدور المنوط بهم.
فكما فجعتني رواية "خديجة" التي أكدتها ناجية أخري من ضحايا القطب الأعظم وتم على أثرها تقديم العديد من البلاغات إلى جهات التحقيق، فقد فجعتني أيضا رسالة من أحد مريديه يقول له فيها: "كيف لا أحبك وأنت سيد روحي، كيف لا أحبك وأنت ابن نور الله، كيف لا أحبك وأنت خليفة سيد الخلق، كيف لا أحبك وحبك فرضًا على الأمم، كيف لا أحبك و لا صلاة لمن لا يصلي عليك، كيف لا أحبك وأنت القطب الحب الرباني، كيف لا أحبك وأنت صاحب المدد العظيم، كيف لا أحبك وفيك سيدي أحمد التيجاني، مدد يا حبيبي يا أهل بيت رسول الله"، ليرد عليه القطب الصوفي برده المعتاد مع مرديه من الجنسين ذكر كان أو أنثي: "اشتقت إليك"!.
وهنا يكمن السؤال لدراويشه: من فرض حب هذا "التيجاني" على الأمم؟!، وكيف لا صلاة لمن لا يصلي عليه؟!، وكيف يأتي المدد من عبد لا حول له ولا قوة سوى ادعاء كرامات واهية؟!.
فصحابة رسول الله أنفسهم لم يقعوا في مثل هذا الأمر، وليس أدل على ذلك من رواية البخاري في تاريخه حين روي: "قال محمد بن فضيل عن فضيل بن غزوان عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل أبو بكر رضي الله عنه عليه (فأكب عليه) وقبل جبهته وقال: بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا، وقال: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت"، وفى هذه الرواية خير دليل على أن القدسية لله وحده لا شريك له.
ومن ثم فإن هذا الغلو الفكري كبيرا كان أو صغير والتطرف من قبل مريدي "التيجاني" وتقديسهم له للحد الذي وصل بغالبيتهم بتلقيب أنفسهم بذات اللقب، يثير التندر ويفتح الباب للوقوف أمام مفاهيم التدين الجديد لهؤلاء والتي لم نسمع بها من قبل، حيث يصدق فيهم قول الله عز وجل: "وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ"، فلا وسيط بين العبد وربه مصداقا لقوله عز وجل: "فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ"[ البقرة: 152]، ولا قرب إلا بالعمل الصالح ولا تربية إيمانية أجدى من "أعمال القلوب، وأعمال الجوارح" والقرآن الكريم مليء بالآيات التي تربط بين الاثنين، ولا يكاد يذكر أحدهما إلا ملازما لصاحبه، لينتبه المسلم إلى أهميتهما معًا، فلا يهتم بأحدهما ويُهمل الآخر، فيقول المولي عزل وجل: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) [مريم:96]، (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا) [طه : 112]، (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى)[طه:75]، ولا شك في أن ما دون ذلك هو تواكل وخديعة كبرى كمن اشتهى الطعام فتخيله.
ولا شك أيضا في أن هذه القضية تتجاوز حدود الفرد، لتثير تساؤلات عميقة حول مفهوم القداسة الدينية لكل من يربطه طرف خيط بطريقة صوفية ما أو حتى طائفة أو فئة دينية معينة، ومن ثم كيفية حماية المريدين من الاستغلال، وآليات مساءلة الشخصيات الدينية، فهل يمكن أن يكون رجل الدين الذي يقدم نفسه كقدوة روحية مرتكبًا لأفعال منافية للأخلاق؟، وهو ما يفتح الباب أمام نقاش واسع حول ضرورة وجود آليات رقابية على مثل هذه الكيانات الدينية ومن يقدمون أنفسهم كرموز لها، كما تتطلب إعادة النظر في العلاقة بين الشيخ والمريد، وتحديد حدود السلطة والمسؤولية، خاصة وأنه يقدم نفسه على أنه عالم بالأقدار وشفيع وواهب ووسيط عند الله وله من الكرامات ما تقشعر له الأبدان!.
كما تزعزع ثقة كافة معتنقي المنهج الصوفي في رموزه الذين طالما تغني البعض بمقولاتهم عبر الأزمنة والتاريخ، فأعلام الصوفية الذين أثروا العالم الإسلامي بفكرهم واشتهروا بمقولاتهم الروحانية وتركوا لنا إرثًا غنياً من المقولات والحكم كُثر، فهذا جلال الدين الرومي الشاعر الصوفي التركي الذى اشتهر بأشعار وقصائد غنائية تحمل معاني صوفية عميقة، وهذا "ابن عربي" الصوفي الأندلسي الذى يعد من أعظم الفلاسفة الصوفية، وله مؤلفات عديدة في التصوف، و"الحلاج" الصوفي الإيراني الذي اشتهر بأقواله الجريئة وتعرض للاضطهاد بسبب آرائه، و"ابن الفارض" الصوفي المصري الذي اشتهر بأشعار غزلية تحمل معاني صوفية، وغيرهم ممكن شكلوا وجدان البعض على مدار العصور.
ومن ثم فإن قضية صلاح الدين التيجاني ليست مجرد حدث عابر، بل هي انعكاس للتحديات التي تواجه الطرق الصوفية في العصر الحديث وما يدور حولها من جدل متواصل، حيث باتت أحوج إلى إعادة قراءة تراثها وتجديد خطابها الديني ليتناسب مع احتياجات العصر والمجتمع، ففي ظل التغيرات السريعة التي يشهدها العالم، تواجه هذه الطرق أسئلة صعبة حول هويتها ودورها، فهل ستتمكن هذه الطرق من التكيف مع المتغيرات والحفاظ على تراثها الغني، أم أنها ستذوب في زحام طلب المدد والكرامات فحسب؟!.
وللحديث تتمة..