ما هي الأسباب التاريخية للتقارب بين الصين والعالم العربي؟(1)
د.لو ينغ بوه
أستاذ بجامعة اللغات والثقافة ببكين
شهد وما زال يشهد عام 2024 عملية تنامي دور الصين العالمي في صنع الاستقرار في داخل البلاد وإحلال السلام في خارجها، ومن وجهة نظر كثير من الخبراء الصينيين والعرب أن ما قامت به الصين مؤخراً يعد انتصاراً للدبلوماسية الصينية على الصعيد الدولي، مما يؤكد مكانة الصين لدى دول الشرق الأوسط كدولة صديقة لأغلب دول الشرق الأوسط. وبناءً على ما حدث خلال الأشهر الماضية من وساطة الصين في المصالحة بين دول الشرق الأوسط وما تبعها من قمة عربية صينية وقمة خليجية صينية عقدت في الرياض في بداية هذا العام، فأرى أن جميع هذه المبادرات تبشر بمستقبل أفضل بين الصين ودول الشرق الأوسط.
ومما لا شك فيه أن هذا النجاح الباهر لا يكون مصادفة دبلوماسية أو ما أسعده الحظ من النتائج الموفقة بقدر ما يكون ثمار التقاء الحضارتين الصينية والعربية الذي قد استمر لعدة قرون حيث تكاملت وتبادلت المنجزات المادية والفكرية كالإرث من الجيل القديم الى الجيل الجديد ليؤثر إحداهما على الأخرى. أشار الرئيس الصيني شي جين بينغ ذات مرة إلى أن "ترابط المشاعر الشعبية يعدّ محتوىً مهمًا في بناء مبادرة "الحزام والطريق" (حزام طريق الحرير البري الاقتصادي وطريق الحرير البحري)، ويعدّ أيضًا الأساس الإنساني لبناء هذه المبادرة. منذ ذلك الحين، اجتذب مصطلح "ترابط المشاعر الشعبية" اهتمامًا واسع النطاق من جميع أنحاء العالم، ولم يقتصر تأثيره على البلدان والمناطق الواقعة على طول طريق الحرير القديم البري والبحري، بل امتد ليشمل نطاقات أوسع؛ لأن هذه الكلمات القصيرة قد وصفت حالة الانسجام التي طال انتظارها بين شعوب جميع البلدان. تشير "المشاعر الشعبية" في هذه الصيغة إلى "مشاعر وتطلعات جماهير الشعب"، و"ترابط المشاعر الشعبية" يعني أن الشعوب من مختلف البلدان والقوميات يمكنهم فهم بعضهم بعضًا عاطفياً.
هناك مثل صيني قديم يقول إن "الصداقة بين الدول تكمن في التقارب المتبادل بين الشعوب، والتقارب بين الشعوب يكمن في التعاطف المتبادل بين القلوب." بصفة أن الصداقة هي الكيان الرئيس لتاريخ البشرية، كانت الشعوب دائمًا أهم قوة دافعة لتعزيز التطور التاريخي، وفي إطار مبادرة "الحزام والطريق"، فإن تطوير العلاقات بين الصين والدول العربية يعد في الأساس تنميةً لمشاعر شعوب الطرفين. من خلال التحليل من مختلف الزوايا، فإنه ليس من الصعب أن نرى أن الشعبين الصيني والعربي يتمتعان بالمزايا والشروط التي تحقق "ترابط المشاعر الشعبية"، وفيما يأتي، سوف نشرح بالتفصيل ثلاثة أسس، كلّ على حده: الأساس التاريخي، والأساس الثقافي، والأساس الديني.
أولا: الأساس التاريخي: عريق ومستمر عبر التاريخ، وتشترك الحكومة والشعب في الترويج له
جميع القوميات في الصين "كانت لها علاقات اقتصادية مع آسيا الوسطى وغرب آسيا قبل عهد أسرة هان. وبعد أسرة هان الغربية، أصبح الاتصال بين الصين والغرب أكثر ازدهارًا، وكان هناك سيل لا ينقطع من المبعوثين الذين يتطلعون إلى الطاوية." يمكن إرجاع العلاقات الودية بين الصين والعالم العربي إلى ما قبل ألفي عام حيث إنه "بعد وقت قصير من سفر تشانغ تشيان إلى المناطق الغربية، أرسلت أسرة هان المزيد والمزيد من المبعوثين إلى آنشي ويانتساي وليتشيان وتياوتشي وشيندو وبلدان أخرى تقع في غرب الصين. كان المبعوثون الذين يتم إرسالهم كل عام في بعض الأحيان يصلون إلى عشر دفعات، وكان عددهم لا يقل عن مائة أو ربما يصل إلى مئات الأشخاص ".
حظيت عملية التبادلات التاريخية بين الصين والدول العربية بتقدير كبير من قبل كبار صانعي القرار، واتبع كلا الجانبين سياسة الانفتاح على العالم والشمولية في فترات تاريخية محددة. تماماً كما قال لي شي مين إمبراطور أسرة تانغ الملكية: منذ العصور القديمة، كانت الصين موضع تقدير والأقليات العرقية في موضع وضيع، لكنى أعاملهم على قدم المساواة؛ لذا فهم جميعًا يعتمدون عليّ مثل الوالدين"، "إنها أخلاق المحب للسلام". قال أبو جعفر المنصور - الخليفة الثاني في عهد الدولة العباسية - عندما وضع حجر الأساس للعاصمة الجديدة بغداد عام 762 بعد الميلاد: "لدينا نهر دجلة الذي يسمح لنا بالوصول إلى أراض بعيدة مثل الصين". "وفقًا للسجلات التاريخية الصينية، فمنذ عهد عثمان بن عفان الخليفة الثالث للنبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى عهد الدولة العباسية، أرسل الخلفاء العرب مبعوثين إلى الصين ما يصل إلى سبع وثلاثين مرة. بالإضافة إلى التبادلات الرسمية، فإن التبادلات غير الحكومية بين الجانبين كانت مألوفة أيضًا، ففي عهد أسرة تانغ المكلية، قام التاجر العماني أبو عبيد بزيارة الصين مجدفا بالقارب؛ خلال عهد أسرة يوان الملكية، قام الرحالة المغربي ابن بطوطة بزيارة الصين خلال رحلاته حول العالم، وقد أثنى على الصين لأراضيها الشاسعة ومواردها الوفيرة؛ وخلال الفترة نفسها، سافر الرحالة الصيني وانغ داي وان أيضًا إلى دول غرب آسيا وإفريقيا، بما في ذلك العالم العربي، وسجل تجاربه التي رآها في كتاب "موجز تاريخي لسكان الجزر".
بشكل عام، يعمل الجانبان على تعزيز التبادلات الثقافية وتبادل الأفراد من خلال التبادلات التجارية باستخدام طرق الحرير البرية والبحرية كحلقة وصل، ومع تبادل السلع التجارية بين الجانبين وزيادة وتيرة التبادلات بين الأفراد، أصبحت المدن الصينية قوانغتشو وتشوانتشو وشيآن مدنًا مهمةً على طريق الحرير منذ عهد أسرة تانغ الملكية حيث تجمّع عددٌ كبيرٌ من التجار العرب، ونشروا ثقافتهم الخاصة للصينيين أثناء ممارسة الأعمال التجارية. وفي الوقت نفسه، تأثروا وتغيروا من خلال المواقف الثقافية المختلفة في الصين عبر التاريخ، وفي عملية الاندماج التاريخي، تزاوج التجار العرب مع السكان المحليين وتصاهروا وتكاثروا، مشكّلين خصائص ثقافية وطنية فريدة وجماعات عرقية، وكانوا يدينون بالإسلام، لكنهم مع ذلك فإن العادات المعيشية قد استمرت في السمات المتأصلة لدى قومية هان والأقليات العرقية الأخرى. إن الأقليات القومية العشر التي تؤمن بالإسلام والعدد الهائل من المسلمين في الصين أتت كبرهان قاطع للتبادلات الودية التاريخية بين العالم العربي والصين، كما أن التعايش المتناغم بين القوميات المتعددة في الصين كان على منواله الصداقة الحميمة بين الصين والعالم العربي.
ومن منظور التبادلات التاريخية، فإن التبادلات بين الجانبين على مدى أكثر من ألف عام تمت بطريقة سلمية دون ترك أي مظالم تاريخية في قلوب الشعبين. كانت التبادلات الطويلة الأجل ذات المنفعة المتبادلة قد شكّلت مودة طبيعية بين الشعبين الصيني والعربي مع بعضهما بعضًا، وأقامت صداقة نقية، ويلعب هذا دورًا مهمًا في إرساء الثقة المتبادلة والتفاهم العاطفي المتبادل بين الجانبين اليوم عندما تقوم وسائل الإعلام الغربية بتشويه -عن عمد- الثقافة الصينية والإسلامية