رضوى رحيم تكتب : عمار الشريعى .. حين بكى الوطن لحنه الأخير
في ٧ ديسمبر 2012، كنت في قلب الأحداث كمراسلة تليفزيونية لقناة الحياة ، أتابع و أرصد صخب المظاهرات وأصوات الجموع التي تملأ شوارع القاهرة. لكن في خضم كل ذلك الضجيج، جاء خبر وفاة عمار الشريعي كصفعة صامتة. لم يكن صوتًا موسيقيًا فقط، بل كان نبضًا وطنيًا، موسيقيًا حاك أرواحنا بخيوط النغم، ورسم بموسيقاه مصر كما يجب أن تكون، جميلة، متفائلة، وحية.
في لحظة الخبر... دموع بلا توقف
حين جاءني التكليف بتغطية خبر وفاة عمار الشريعي، كنت أقف بين الحشود الغاضبة أمام قصر الاتحادية. كان الشارع متوترًا، الجميع يطالب بشيء، لكن حين سمع الناس نبأ رحيله، خيّم صمت مؤقت، وكأن مصر بأكملها تنهدت بألم لحظة وداعه. عدت إلى مكتبي وبدأت أكتب، لكن الكلمات عصتني، لم أكن أدري: هل أكتب حزني على فقدان الرجل الذي صنع الموسيقى التصويرية لأجمل ذكرياتي؟ أم ألملم ألمي الشخصي على رحيل روح تشبه مصر نفسها؟
اقرأ أيضاً
- بالصور.. إقبال وتفاعل جماهيري كبير في تكريم المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية لاسم الموسيقار الكبير الراحل عمار الشريعي
- هيدي كرم تحل محل نسرين طافش في تصوير أولى مشاهدها بفيلمها جوازة توكسيك
- أحمد علي يكتب: علاء عبد الخالق.. رحيل مطرب أرتبط بصوته أجيال
- على Netflix.. فيلم إسرائيلي يسرق ألحان عمار الشريعي في رأفت الهجان
- القومي للسينما يعرض فيلم أمير البهجة بنادي السينما .. غدا
- يسرا: استفدت من عمار الشريعي وسيد مكاوي في تجسيد شخصية ”أحلام سعيدة”
- إيهاب توفيق يوجه رسالة لـ"الساهر" و "الرباعي"
- في عيد ميلادها الـ 32 تعرف علي خطوات آمال ماهر في عالم الغناء
سر العراب
عمار لم يكن مجرد ملحنا عبقريا كان عرابًا لكل من أحب الموسيقى في هذا الوطن. تذكرت أول مرة استمعت فيها لموسيقاه في "رأفت الهجان"، حيث شعرت وكأن النوتات الموسيقية تحكي قصة أبطالنا، وتزرع فينا فخرًا صامتًا. كان يعرف كيف يجعل من الموسيقى صوتًا للروح، ومن اللحن ذاكرة لا تنسى.
في غرفة المونتاج بقناة الحياة ، جلست مع زميلي المونتير نحاول صياغة فقرات التقرير عنه، لكننا لم نستطع. كل كلمة تغزل بدندنه من صوته او تندمج بلحن من الحانه كانت تنهار، تذوب أمام ثقل الفقد . كان عمار الشريعي في أعيننا رمزًا لمصر التي نحلم بها: مصر البسيطة، العميقة، المثقفة، التي تحب الفن وتعيش له.
أغنية لم تكتمل... وطن مأزوم
رحيل عمار لم يكن مجرد خسارة لموسيقار، بل كان رمزًا لما كنا نعيشه في تلك الأيام. كأن موته جاء ليذكرنا بأن الفن وحده كان القادر على لمّ شملنا. مصر كانت غارقة في أزماتها، الشوارع تشتعل بالمظاهرات، والقصر الرئاسي محاصرا بالهتافات. ورحيله، في تلك اللحظة تحديدًا، كان أشبه بفقدان الضوء الوحيد الذي كان يهدينا في هذا النفق المظلم.
الإنسان الذي لم يغادرنا
تذكرت كلماته حين كان يقول: "الفن مش مجرد نغم... هو الروح اللي بتعيش بعد كل حاجة." وكيف أن هذا الرجل، الذي وُلد كفيفًا، لم يرَ بعينيه، لكنه أبصر بكيانه كله ما لم نبصره نحن. كان يرى الجمال في مصر حين كنا نغرق في القبح، وكان يعبر عنه بموسيقاه ليذكرنا بما يمكن أن نكون عليه.
مشهد وداعه... وجعي الذي لن أنساه
يوم جنازته، ذهبت كأي مراسل برفقتي صحبتي ، الكاميرا ، دفتري، قلمي و ألمي وقفت أمام مسجد الحامدية الشاذلية بالمهندسين ، أرى وجوه الناس التي أدمتها الحزن، وكانت دموعي تسبقني. آلاف و آلاف من المشيعين ، لم يكن هناك فرق بين فنانين كبار، وصحفيين، ومواطنين عاديين. الجميع كانوا كأنهم فقدوا فردًا من عائلتهم، و بالفعل كان .
وكنت أردد في داخلي: هل كان يعرف كم أحببناه؟ هل كان يدرك أنه موسيقى مصر التي لن تتكرر؟
سيرة لا تموت و لحن يتجدد
مرت السنوات ١٢ سنة ، ولم يكن رحيل عمار الشريعي نهاية لمسيرته، بل بداية لحياة جديدة لموسيقاه وعبقريته التي تأبى أن تغيب. اكتشفنا مع مرور الوقت أن عمار سيظل حيًا فينا، في كل نغمة تحمل بصمته، في كل لحظة يعزف فيها الوطن لحنًا من ألحانه، وفي كل وجدان تشكّل على إيقاع عبقريته.
ميرفت القفاص: الحارس الأمين
زوجته، الإعلامية العظيمة ميرفت القفاص، حملت على عاتقها مهمة نبيلة، وهي الحفاظ على تراث عمار للأجيال القادمة. بفضلها، بقيت ألحانه تُسمع وتُروى، وأعماله تُعرض، وذكراه تُخلّد. أسست فعاليات وندوات تروي سيرته وتعيد تقديم موسيقاه بطرق عصرية، لتبقى نابضة بالحياة كروحه التي لم تغادرنا.
مراد: امتداد النغم و الهمهمة
أما ابنه مراد، فقد كان الامتداد الطبيعي لهذا الإرث العظيم. رغم صغر سنه عند رحيل والده، نشأ مراد محاطًا بروح موسيقاه وذكراه العطرة. اليوم، يظهر كمن يحمل شعلة الأب، يسير على خطاه بتواضع وحب، ويعمل على إحياء إرثه بوعي وشغف. يظهر اسمه في الفعاليات والمناسبات التي تخلّد والده، مما يمنحنا الأمل في استمرار عبقرية عمار الشريعي عبر الأجيال.
عمار الذي لن يغيب
عمار الشريعي لم يكن موسيقيًا فحسب، بل كان روحًا تسكن في تفاصيلنا، وصوتًا يحمل أحلامنا وآلامنا. رحيله كان خسارة، لكن إرثه كان هدية أبدية. وما دمنا نتذكره، وما دامت موسيقاه تُعزف في كل بيت، وما دام مراد وميرفت يحملان شعلة النغم، سيظل عمار الشريعي حيًا بيننا، يقودنا بألحانه نحو وطن أفضل وحياة أعمق.
لأنه، وكما كان يقول: "الموسيقى مش مجرد نغم... الموسيقى هي الحياة."