العالم العربي وتدشين مسيرة التصنيع(2)
د.لو ينغ بوه
بروفيسور اللغة العربية بجامعة اللغات والثقافة ببكين
إذا استطعنا أن نستكشف بعض الإلهامات من مسار التصنيع في الصين على مدى الأربعين عامًا الأخيرة، وتمكنّا من تنوير استكشاف التصنيع في العالم العربي، فإننا نعتقد أنه يجب استيفاء الشروط التالية لإطلاق هذه العملية:
أولا: السياسات الفعالة
ينبغي أن يكون لدى دوائر الحكومة الخاصة بصنع القرار الاقتصادي فهم عميق للخصائص الاقتصادية للبلاد ومزاياها النسبية وخصائص القوى العاملة لها لصياغة سياسات اقتصادية كلّيّة طويلة الأجل تتماشى مع مستويات التنمية المحلية ويمكن أن تحفز ريادة الأعمال وتنشّط حماسة الشباب في العمل والمحاولة، مما يساهم كوسيلة في حماية القوى الإنتاجية وتطويرها، ومن ثم إيجاد نقطة انطلاق للمشاركة في تقسيم الأعمال العالمية.
ثانيا: الحكومة الواعدة
لا يمكن للحكومة أن تترك السوق تمر دون رادع، ومن الضروري إمساك زمام المبادرة في يدها لتحقيق التعديل الكلّي في عملية توزيع موارد السوق مع توفير ظروف صالحة لتنميته، وذلك لتجنب الأزمات الاقتصادية الناجمة عن تعطل السوق هذه الأيدي غير المرئية عن توزيع موارده.
ثالثا: الوقت الكافي نسبياً
اذا ألقينا نظرة عامة على مراحل التصنيع في العالم فليس من الصعب أن نجد أنها وردت نتيجةً للجهود المتواصلة والمنهجية للسياسات القائمة على نظرة بعيدة والتي طُبقت لفترة زمنية طويلة نسبيا، فلقد مرت الدول الغربية مثل بريطانيا والولايات المتحدة بمرحلة استمرت مائتيْ عام بعد إطلاق الثورة الصناعية، كما خاضت الصين مرحلة دامت أربعين عامًا منذ عام 1978م الذي يعتبر مستهل عملية التصنيع. نعتقد أن توقيت بدء الثورة الصناعية قد يختلف من مكان إلى آخر، لكنها في المجمل عملية طويلة وتقاس بالعشر سنوات لكل وحدة، وإنّ ما إذا كان يمكن للمنطقة العربية (أو أي دولة من الدول العربية) أن تحقق السلام والاستقرار على مدى عشر سنوات من عدمه، سيشكّل عاملاً رئيسياً في إنجاح عملية التصنيع فيها ولها.
رابعا: روح ريادة الأعمال
لقد تطلبت الثورة الصناعية عدداً كبيراً من رجال الأعمال الباحثين عن الربح والمجازفين لفتح الأسواق الناشئة وفي المجالات الجديدة، وبوسعنا أن نفهم هذا من خلال النظر إلى أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر و"تيار الأعمال التجارية" التي كان يعمّ الصين شمالا وجنوبا في التسعينيات من القرن الماضي. أما في عصر المعلومات اليوم، فعلى الرغم من انخفاض التكاليف الزمانية والمكانية للاتصالات بين الناس، إلا أن وجود العدد الكبير من رواد الأعمال لا يزال عاملاً رئيساً لتحفيز عملية التصنيع. وبشأن هذا، يتمتع العرب بميزة فريدة لا مثيل لها في أي أمة من الأمم في العالم لأنهم أمة تجارية أصلا على مر التاريخ، حيث كان النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) نفسه تاجراً ناجحًا وشجاعًا ومقدامًا للغاية مما جاء كأسوة سلوكية ذات شخصية مثالية للأجيال القادمة من المسلمين الذين ازدادت أعدادهم يوميا.
أما الإلهام الأخير الذي استمددناه من عملية التصنيع الصينية فهو العلاقة الجدلية بين اليأس والأمل. إن تاريخ الصين الحديث مليء باليأس والإذلال، ولكن في اليأس السائد والدائم وجد الناس شرارة الأمل، وأنشأوا جمهورية الصين الشعبية بعد أن تعرضوا للعديد من النكسات، ثم وجدوا المفتاح لفتح الباب أمام التصنيع بعد تكرار المحاولات الفاشلة. لقد قال المفكر الصيني العظيم منشيوس من قبل: "تولد الازدهار والحيوية من الحزن والمعاناة بينما أقبل الهلاك والفناء من الهناء والضياع". وبدلاً من العيش في الأمل الزائف أو التشاؤم المفرط، فمن الأفضل مواجهة اليأس الذي يعتريه مجتمعنا وبلدنا وأن نحوله إلى شجاعة الإصلاح والمحاولة في نفس وقت محاسبة أصحاب البصيرة في العالم العربي أنفسهم: في حالة فشلنا في السير على طريق التصنيع، وعندما ينفصل العالم العربي بأكمله تمامًا عن العالم الغربي سياسيا واقتصاديا وإمداديا، فهل يمكننا كأمة وهيئة سياسية مستقلة أن نحيى حياة كريمة؟
قد يقول البعض إننا دخلنا الآن القرن الحادي والعشرين، حيث لن تسمح فطرة الناس وضميرهم ووعيهم بأن تتحول صراعات العالم الحادة إلى حالة حياة أو موت أو انفصال إطلاقي بين الشرق والغرب، ولكن إذا لم يتم التطوير في اتجاه التصنيع ولم يتم تكوين القوة الذاتية الوطنية، فإن العالم العربي المترامي الأطراف جغرافيا قد يصبح مثل "بلدان الجنوب الغفيرة" التي ستستمر في الانحطاط والتحول إلى دول مستوردة للمواد الخام وأماكن إغراق الأسواق بالسلع بالنسبة للدول الصناعية الغربية في المستقبل المنظور ولن يجد ملجأ آمنا للحفاظ على حريته وكرامته اللتين دائما ينظر اليهما على أنهما من أثمن شيء للعرب سلالة امرؤ القيس وعنترة بن شداد وغيرهما من الأبطال المناضلين من أجل حريتهم وكرامتهم بكل التفاني حتى اللحظة الأخيرة في حياتهم.