الجمعة 22 نوفمبر 2024 02:56 مـ 20 جمادى أول 1446هـ

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

آراء وكتاب

الكتابة على لحمٍ يحترق !!

مأمون الشناوى

نصحتني ذات يومٍ بعيد أُستاذتي الدكتورة ( سهير القلماوي ) وأنا اتأهب للإلتحاق بمعهد الإعلام الذي كان يفتح أبوابه لعامه الأول ، والذي ترقى بعدئذٍ فصار كلية الإعلام بجامعة القاهرة ، والذي قوبل برفض شديد من الأهل لمجرد أنه ( معهد ) فحُرمت من حلم حياتي ، نصحتني الدكتورة سهير أن أقرأ ثلاثة أضعاف ما أكتب ، وأن أقرأ فقرة لكيّ أكتب جُملة ، وأقرأ فصلاً لكيّ أكتب صفحة ، وأقرأ كتاباً لكيّ أكتب فصلاً ، وأقرأ ألف كتاب لكيّ أكتب كتاباً واحداً !!.

وأمسكت بنصيحة أستاذتي بيديّ وأسناني ، وأدمنت القراءة دون أن أنشغل بالكتابه كثيراً ، اللهم ماتيسر لي من المقالات المتناثرة وقصائد الشعر التي كنت أرسلها لبعض الصحف السيارة فتنشرها في حينها دون دأب مني على مواظبة ذلك !!.

حتى جاءت ثورة يناير 2011 م فرأيتني مدفوعاً برغبة جامحة للكتابة اليوميّة ، وهو عمل شاق جداً لمن جَرّبه ومارسه ، وكانوا قِلة معدودة في عالم الصحافة والأدب من كِبار كُتاب الأعمدة لديّنا ، وهم معروفون جيّداً لدى القارئ العادي للصُحف ، من أمثال الأساتذة على ومصطفى أمين وأنيس منصور وأحمد بهاء الدين وغيرهم !! .

ولأنني كنت مُطمئناً إلى ما لديّ من احتياطٍ وفير ، وأن البئر عامر ، وأن الشجرة مُحملةٌ بثمار أينعت على مدار عشرات السنين ، فلم أتوجس خيفة ولم أعانِ ، بل وجدت لذة كبيرة في تقديم وجبة شهية طازجة لقارئي العزيز كل صباح ، نتبادل استطعامها معاً ونتذوق مافيها من فكر ورؤية ، وتتلاقح أدمغتنا وثقافاتنا ، ونتفق حيناً ونختلف أحياناً ، مُتغاضياً عن بعض التجاوزات التي تشبه الضربات الحُرة أو الفاولات في كرة القدم ، ولكنها لاترقي إلى ضربات الجزاء أو الاصطدام الذي يستوجب استدعاء سيارة الإسعاف واشهار الكارت الأحمر !! .

لكنني في الآونة الأخيرة رأيّت أن الأمر قد زاد عن حده ، وأن الخرق اتسع على الراتق كما قال عمنا الجبرتي ، وأنه ليس فقط لا أحد يتغير ، ولا يريد أن يتغير ، وأن الكل متشبث بما يعتقد وغير مُستعد لمراجعتة أو الاستماع إلى مَن هُم أكثر منه ثقافة ورؤية وتجربة ومعايشة للأحداث ، ولكن كل ذلك صار مصحوباً بوقاحة وسفاهة وسفالة وسوقية لاحدود لها ولاسقف لانطلاقها ، وأن الكثيرين يمرون على عنوان المقال أو يعبرونه إلى عدة سطور في بدايته ثم يندفعون في هجوم محموم ومسعور !!.

وبدا المجتمع المصري الآن في حالة استقطاب مرعبة وحادة ، فأنت متهم لامحالة من أي فصيل ، ولا مجال للتعقل والانصاف والحكمة ، وإنما سعيّ للالجهاز على الخصم كأننا في حلبة مصارعة ، النقد لمجرد النقد ، المعارضة لمجرد المعارضة ، التنابز الذي يشبه صراع الديّكة !!.

وبدأت أشعر بتدني الفكر والأسلوب والسلوك مما لم اعتده في حياتي أو أحتمله في هذا العمر ، وصرت أشعر كأنني أكتب على لحمي الذي يحترق ، فاخترت أن أبتعد قليلاً فلربما رأيّت الصورة أوضح ، وبالفعل رأيتها قاتمة شديدة القتامة ، فكم تمزقت أرحام لاختلاف سياسي عابر ، وكم تخاصم الزوجان حد القطيعة لرأي مختلف ، وتضارب الأبناء وشُجت رؤوسهم لاتهام متبادل بالتطبيل أو بالخيانة ، وافترق الأخلاء والأصدقاء وتشرذم الأصحاب ، وبدا الوطن على اتساعه مثل سِم الخياط ، وضاقت النفوس بالنفوس !! .

فهل من سبيلٍ يُخرجنا من هذا النفق المظلم ياسادة ، هل من حلٍّ قبل أن أحمل مِخلاتي وأرحل إلى حيث نصحتني أستاذتي ( سهير القلماوي ) ذات يومٍ بعيد ، بلا رجعة غير آسف ولانادم ، بعد ثمانية وستين عاماً من محاولة التغيير والتنوير ، يعلم الله وحده كم دفعت في سبيلها ، ومازلت أدفع ، فأُريح وأستريح !! .

مقالات مأمون الشناوى كلية الاعلام