الأربعاء 30 أبريل 2025 01:09 صـ 1 ذو القعدة 1446هـ

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

رئيس التحرير محمد يوسف رئيس مجلس الإدارة خالد فؤاد حبيب

آراء وكتاب

هناء شلتوت تكتب: مطرقة الديانة وسندان الطائفية

العدالة لا تعرف طائفة، والمتهم لا يُمثل دينًا، والضحية لا يجب أن يُصنّف بالعقيدة، فالجريمة لا دين لها، ولن يفلح وصف أي جاني بـ"المتدين" أو "المحترم" أو "المسن" في الإفلات من العقوبة، فجميعها صفات قد يتخفى كثيرون خلفها بجرائم يندي لها الجبين.

فهناك في مدينة دمنهور بمحافظة البحيرة، وتحديدًا داخل إحدى المدارس الخاصة للغات، وبين سطور تقرير الطب الشرعي، وأوراق تحريات لم تسفر عن شيء طوال شهور، يوجد طفل اسمه "ياسين" لم يبلغ من العمر ست سنوات تعرض لانتهاكا جنسيا من شخص طاعن في السن، وبين عشية وضحاها أصبحت قضيته مثار جدل ديني وعنوان مثير يدق ناقوس الخطر.

وفي مجتمع يُربّي أبناءه على أن "العيب" أخطر من "الجريمة"، كان لا بد أن يأتي "ياسين" ليكسر هذه التابوهات المريبة، فرغم صغر سنه عاش "ياسين" ما لا تحتمله أعمار بأكملها، حتى أصبح محور رواية مؤلمة، المتهم فيها رجل سبعيني، يعمل مراقبًا ماليًا في مدرسة خاصة تابعًا لمطرانية البحيرة -بحسب أوراق القضية-.
فهو الطفل الذي يقول جسده ما لا يقوى لسانه على البوح به، وعيونه تخبر بأمر لا يحتاج انتماءً دينيًا لفهمه، فالحقيقة أن شيء ما قد حدث، ويجب أن يُحاسَب من فعله.

اكتشاف الجريمة بدأ من علامة جسدية لاحظتها الأم على طفلها "ياسين"، أثارت في قلب الأم شكوكًا، وتحولت سريعًا إلى خوفٍ وقلقٍ لا يهدأ، هذه العلامة، التي قد يراها البعض عابرة، إلا أنها فتحت أمام الأم بابًا مظلمًا، فبعد استشارة الطبيب، جاء التشخيص الصادم وهو تعرض الطفل لممارسات جنسية متكررة.
لكن، وسط تفاصيل الجريمة التي أشعلت مواقع التواصل بوسم #حق_ياسين_لازم_يرجع، حاول البعض أن يصرف الأنظار عن جوهر القضية ليقع "ياسين" بين مطرقة الديانة وسندان الطائفية، فالبعض أراد أن يجعلها "حربا دينية"، بينما هي في حقيقتها "معركة بين الصمت والحق".
لكن على الجانب الآخر، بدأت صفحات تروج لروايات "المؤامرة ضد المسيحيين"، فيما قُوبلت بقصفٍ مضاد من متعصبين يدعون المسلمين لمقاطعة المدارس المسيحية، وبين شدّ وجذب، ضاع اسم ياسين، وضاع وجعه.

اقرأ أيضاً

لكن السؤال الأهم: هل ياسين مسلمًا أم مسيحيًا؟ وهل الجاني مسلمًا أم مسيحيًا؟، والإجابة هنا لا تهم، لأن جسد الطفل لم يسأل الجاني عن دينه، ودموعه لم تتلو صلوات مختلفة عن دموع أي طفل آخر، ولن يجدي جر القضية إلى منطقة رماديه يحفها صراعا دينيا او نزاعا طائفيا.

فالطريق نحو الحقيقة دائما محفوف بالمخاطر، وهكذا بدأت رحلة البحث عن حق يوسف، ولكن لم تكن هذه الرحلة سهلة أبدا.

المدرسة والدين: علاقة لا يجب أن تُستغل
المدرسة التي وقعت فيها الجريمة، بحسب قرار الإحالة، تملكها مطرانية البحيرة، وتُدار بطابع ديني مسيحي، ويتلقى فيها التعليم أطفال مسلمون ومسيحيون معًا.
هذا التنوع، الذي يُفترض أن يكون نموذجًا للاندماج والتعايش، تحوّل في لحظة إلى ساحة اتهام جماعي فجأة، لم نعد نحاكم شخصًا بعينه متهمًا بجريمة، بل نحاكم "جهة"، وندخل في نفق مظلم من التلميحات الطائفية.

فهل الجريمة دينية؟ الإجابة التي يجب أن تُقال بوضوح: لا، الجريمة – إن ثبتت – هي جريمة فرد ضد طفل، لا علاقة لها بعقيدة الفاعل، ولا ديانة الضحية، لكن بعض الأصوات، سواء بدافع الانحياز أو سوء النية، اختارت أن تُخرج الجريمة من سياقها الإنساني والقانوني، وتضعها في خانة "المسيحي المتهم والمسلم الضحية"، وهي زاوية خطيرة، تُشعل النار في هشيم بلد لطالما عانى من الاستقطاب الديني.
فمحاولة البعض عبر مواقع التواصل الاجتماعي للتعبئة وتصدير القضية كـ"صراع ديني"، هو أمر لا يمت للحقيقة بصلة، فنحن أمام اتهام خطير، موثق بتحقيقات وتقارير، لكننا لسنا أمام فتنة.
ولا يجوز أن نسمح لعاطفة دينية، أو كراهية دفينة، أن تلبس القضية رداءً غير الذي خيطته الوقائع.



الوقائع بين أوراق رسمية وقلوب مفطورة
من كشفٍ طبي أولي أشارت إليه الأم، إلى تقرير طب شرعي أكثر تعقيدًا، ظل السؤال الأكبر يتردد:
هل تعرّض ياسين للاعتداء الجنسي؟
تقرير الطب الشرعي لا يجزم بالإدانة أو البراءة، لكنه يؤكد وجود اتساع شرجي لا يحدث عشوائيًا، ويوضح أنه "جائز" أن يكون بسبب إيلاج متكرر، الطبيب يرفض وجود أمراض قد تفسر ذلك عند الطفل، لكنه في الوقت ذاته ينفي وجود علامات اعتداء حديث.

نحن أمام أوراق لا تُدين ولا تُبرئ، وإنما تشير إلى احتمال قوي يحتاج أن يفصل فيه القاضي، لا الرأي العام، لكن المشكلة لم تعد فقط في التحقيقات، بل في الصخب الذي أحاط بالقضية، والذي انزلق سريعًا إلى معارك دينية وطائفية، وفي هذه المساحة الرمادية، لا يليق بأحد أن يقفز إلى استنتاجات.

بين العدالة والطائفية: من نحمي؟ ومن نحاكم؟
عندما يُصبح السؤال في قضية كهذه: "مين بيتستر على مين؟ وهل فيه حماية كنسية للمتهم؟" بدلاً من أن يكون "هل هناك دليل على الإدانة؟"، فنحن نُضيّع البوصلة.
وعندما يُواجه أهل الضحية عروضًا للمصالحة مقابل تنازل، ثم لا يتحرك القانون بحزم، تُفتح أبواب المظلومية الدينية من الطرفين، وفي المقابل، حين يدافع البعض عن المتهم لأنه ينتمي لمؤسسة دينية معتبرة، أو يهاجم الطفل لأنه مسلم ويتعلم في مدرسة مسيحية، فهذا هو أكبر خطر على فكرة المواطنة، ذلك لأن حماية الدين والعقيدة تبدأ من رفض الزج بهما في الجرائم، لا من استخدامهما كدرع يُخفي خلفه بعض الأفراد أفعالهم المشبوهة.
وأسرة الطفل، بعد أن واجهت محاولات تسويف وتأخير، لجأت للقضاء، وأحال النائب العام مؤخرا القضية إلى محكمة الجنايات لتقول كلمتها.

الدراما والواقع: من "لام شمسية" إلى "حكاية ياسين"
ربما لا تختلف مأساة ياسين كثيرًا عن ما شاهدناه في مسلسل "لام شمسية" والأم التي حاربت للحصول على حق ابن زوجها بعد أن تم التحرش به من قبل معلمه المقرب من الأسرة، الفرق الوحيد أن بطلة "لام شمسية" في الدراما وجدت جمهورًا متعاطفًا، أما أم ياسين، فهي تواجه جمهورًا منقسمًا: بعضهم يصدق، وبعضهم يُكذّب، وكثيرون يسألون: "هو الطفل ده مسلم ولا مسيحي؟"

في النهاية، المتهم لا يُبرَّأ لأنه مسن، ولا يُدان لأنه يتبع جهة نافذة، والمؤسسات التعليمية والدينية ليست موضع اتهام، إلا إذا ثبت تسترها أو تقاعسها، ومن ثم فالعدالة لا تُصلى لها صلاة معينة، ولا تُقال فيها تسبيحة أو آذان، بينما العدالة حين تكون صادقة، لا ترى إلا الطفل الذي صرخ ولم يسمعه أحد، وياسين، الذي تعرّف على المتهم في جلستين من خمس، وضل الطريق في الثلاث الأخرى من هول ما مر به، ليس شاهد زور، بل شاهد جريمة من نوع لا يُغتفر.
#حق_ياسين_لازم_يرجع، لكن فقط حين تقول المحكمة كلمتها الأخيرة، لا حين يصرخ فينا فيسبوك أو تيك توك.

مطرقة الديانة وسندان الطائفية مسلم مسيحي الجريمة لا دين لها ياسين الطفل ياسين دمنهور مطرانية البحيرة اغتصاب تحرش لام شمسة فيسبوك المسيحيين المسلمين الدين العقيدة التعايش المدرسة الميدان هناء شلتوت