ما هي الأسباب التاريخية للتقارب بين الصين والعالم العربي؟(2)
بقلم:د.لو ينغ بوه
أستاذ بجامعة اللغات والثقافة ببكين
ذكرنا في المقال السابق النقطة الأولي من القواسم المشتركة التي تعد من أحد الأسباب التاريخية للتعاون بين الصين والعالم العربي وفي هذا الجزء الثاني نستكمل النقاش المتبقية لكي نضع القارئ أمام حقائق علمية ومنها
ثانيا: الأساس الثقافي: تراث عميق وقواسم مشتركة
ينتمي كل من الثقافة العربية والثقافة الصينية إلى النظام الثقافي الشرقي الذي له تاريخ طويل ومعرفة عميقة، فكلا الشعبين يحب السلام. "منذ آلاف السنين، لم يكن لدى الصينيين سوى قلب الوقاية من العدوان الأجنبي، وليس لديهم نية لمهاجمة الدول ونهب الأراضي. إن معارضة العدوان والنهب هي الفكر السائد والفهم الأساسي للشعب الصيني. يشكل هذا النوع من التفكير والتفاهم الأيدولوجية الرائدة والفهم الأساسي للسلام في الثقافة الصينية. أما الإسلام الذي هو أساس الثقافة العربية، فهو دين سلام، ودين يحترم الطبيعة ويتماشى مع متغيرات الطبيعة، ويأمر الناس أن يعاملوا الآخرين بسلام ولطف، وأن يكونوا صادقين، وأن يكونوا متسامحين... إلى غير ذلك من التعاليم."
على الرغم من وجود بعض الاختلافات بين الثقافتين بسبب اختلاف بيئة التطوّر، إلا أنه لا يزال النظامين الثقافيين يُظهِران العديد من القواسم المشتركة من منظور شامل. يمكننا تلخيصها بإيجاز على النحو الآتي: الشمولية، والوراثة، والابتكار.
الشمولية
نظرًا لأن النظامين الحضاريين هما الرئيسان في العالم واللذان داما حتى الآن، فإن النظام الثقافي العربي والنظام الثقافي الصيني يتحليان بغاية الشمولية. إنه لمن الصعب علينا أن نتخيل أن نظامًا حضاريًا رديء الشمولية يمكن أن يتعامل مع اندماج وتحديات الثقافات الأجنبية المختلفة التي استمرت لأكثر من ألف عام. حينما خرج العرب في العصور الوسطى من شبه الجزيرة، واجهوا عالمًا متحضرًا غير مسبوق، فتعلموا واقتبسوا من الحضارة الفارسية والحضارة الرومانية والحضارة الهندية، ووقفوا على أكتاف العظماء يبنون ويثرون نظاما ثقافيا لهم. منذ القرن الثاني عشر، تراجعت الإمبراطورية العربية تدريجياً سياسياً وعسكرياً، وفقدت هيمنتها على الساحة الدولية، وغزاها المغول والأتراك العثمانيون على التوالي، ومع ذلك، فمن الناحية الثقافية، فإن الثقافة العربية الإسلامية ليست على وشك الانقراض بسبب انهيار الإمبراطورية العربية، ولكنها تحتضن الثقافات الأجنبية وتؤثر فيها وتغيرها بنشاط، واستقبلت جولة جديدة من حركة اليقظة الثقافية في العصر الحديث.
أما بالنسبة للثقافة الصينية، فإن "الشمولية" هي أيضًا مفتاح لبقائها المستمر الذي لم يُقْهر حتى اليوم في مواجهة الغزو الأجنبي القوي المتكرر مرة تلو الأخرى في سياق تطورها التاريخي. من "إدارة القوميات الأقلية الخمس للصين" و"معركة ياشان" إلى "تولي قومية مان الشمالية على السلطة بدء أسرة تشينغ الملكية"، لم تنهَر الثقافة الصينية المتمثلة في ثقافة قومية هان في وقت الأزمات الوطنية، على العكس من ذلك، أظهر هذا النظام الثقافي شمولية كبيرة. في عملية الصراع مع الأنظمة الثقافية الأخرى، عندما تكون الأمة الصينية في وضع غير مُؤات على المستويين العسكري والسياسي، يميل النظام الثقافي الصيني إلى إظهار قدر أكبر من المرونة على المستوى الثقافي، ورفض العوامل الثقافية الأجنبية والتخلص منها بشكل إيجابي، مما يشكل شكلاً جديدًا من أشكال التعبير للنظام الثقافي الصيني.
الوراثة
في عملية تطور الحضارات المختلفة في العالم، يمكن تلخيص خصائص النظام الثقافي العربي بعبارة "ربط الماضي بالمستقبل، وربط الشرق بالغرب". رَبَطَ النظام الثقافي الذي أنشأه العرب النظامَ الثقافي اليوناني الروماني بالنظم الثقافية الفارسية والهندية، وتم الحفاظ على جوهر الحضارات الشرقية والغربية المفقودة والمتناثرة في العصور الوسطى وتوريثها من خلال اللغة العربية، والتي عادت إلى الغرب في العصر الحديث، مما أدى إلى ولادة عصر النهضة الأدبية والثورة الصناعية. وقد استفاد التطور السريع للحضارة الغربية في العصر الحديث إلى حد كبير من الميراث الفريد للثقافة العربية، فقد ورث العلماء العرب في العصور الوسطى الأساليب العلمية الشرقية التي ركزت على الوصف التجريبي في أعمالهم المختلفة، وتم وصف نتائج البحث العلمي الشرقي والغربي وإعادة مناقشتها، إنها عملية تنقيح تزيل الغثّ وتستخرج الجوهر. إذا لم يرث النظام الثقافي العربي الإنجازات العِلْمية للعالم القديم، سيتأثر تطور العلم الحديث بشكل كبير بلا شك أو يتأخر ظهور النهضة الفنية في تاريخ العالم بسنين طويلة.
وبالمثل، فإن النظام الثقافي الصيني يتحلى أيضًا بـ"الوراثة" القوية، وتستند استمرارية الثقافة الصينية إلى حد كبير على "وعي الوراثة" الوعي الذي يظهره كل موضوع ثقافي للعادات التقليدية والأسس الثقافية، حتى عندما تكون في وضع غير مؤات من الناحية العسكرية والسياسية، فلا زالت الثقافة الصينية لا تنثني قناتها في الحفاظ على النمط الأصلي للنظام الثقافي لها من خلال كل فرد من أفرادها.
3- الابتكار
النظام الثقافي العربي مبتكر للغاية على أساس الشمولية والوراثة، أثناء قيام الإمبراطورية العربية، استغلّ العرب سطوع الدين وحِدّة سيوفهم لفتح الأراضي الشاسعة عبر أوروبا وآسيا وأفريقيا، ومع تأثر المناطق المختلفة بالثقافة العربية الإسلامية، أظهرت المجموعات العرقية المختلفة اتجاهات مختلفة في الأسلمة. تتميز منطقة شرم وبلاد ما بين النهرين وحوض نهر النيل ومنطقة المغرب العربي بخصائص ثقافية إسلامية فريدة تستند إلى تقاليدها الخاصة، والتي تعد تجسيدًا لابتكار النظام الثقافي الإسلامي. في العصور الوسطى، أدخل العرب الإنجازات العلمية الشرقية والغربية القديمة في النظام الثقافي العربي من خلال حركة الترجمة التي استمرت قرنا من الزمان، وعلى هذا الأساس تم تلخيصها وتطويرها، حيث بلغت مجالات الطب والرياضيات وعلم الفلك والفلسفة، وغيرها ذروة البحث العلمي في ذلك الوقت، كمنارة تنير عقول الناس وقلوبهم في العصور الوسطى المظلمة. ينعكس ابتكار النظام الثقافي الإسلامي أيضًا في التأكيد على "الإبداع" في نصوص الشريعة الإسلامية، أي تشجيع الفقهاء على تفسير الشريعة الإسلامية في بيئات مختلفة وفقًا للوضع القائم والاحتياجات الراهنة، وعدم التشدد في التمسك بنص الشريعة الإسلامية، وحل المشاكل التي تواجهها في الواقع من خلال "الابتكار".
بالنسبة للثقافات الأجنبية في فترات تاريخية مختلفة، فإن النظام الثقافي الصيني أجرى ابتكارا باستمرار على أساس التسامح والميراث، حيث يمكن دمج الثقافات الأجنبية في الثقافة الصينية التقليدية. يمكن أن تنعكس هذه النقطة بشكل أفضل في نقطة "صَيْننة الإسلام"، ففي أثناء عملية تطور انتشار الإسلام في الصين، قام المسلمون الصينيون، في نفس الوقت الذي حافظوا فيه على الصلاة، علقوا آمالهم على القيم التي يلتزمون بها في الثقافة التقليدية الصينية في تعاليم مختلفة. يشير المسلمون الصينيون إلى "الأركان الخمسة" للإسلام على أنها "الثوابت الخمسة"، كما أن الثوابت الخمسة أيضًا تنقسم إلى "باطنية وظاهرية"، فالثوابت الخمسة الباطنية هي "الإحسان، والاستقامة، والأدب، والحكمة، والإيمان"، أما الثوابت الخمسة الظاهرية هي "معاملة أولى الأمر، الآباء والأبناء، الزوج والزوجة، الإخوة والأصدقاء". كان ليو تشي -عالم الإسلام الصيني في عهد أسرة تشينغ الملكية – قد طلب من المسلمين أن "يظهر أثر الصلاة على الجوارح، وأن يُغذّى القلب بالشهادتين، وأن تُكْبح الشهوة بالصيام، والزهد في الحياة بالحج، وتُنمّى الأموال بالزكاة"، حيث دعا المسلمين أن يجسدوا سعيهم للإيمان في الجوانب الخمسة "الجسد، والقلب، والشهوة، والحياة، والمال". إن عملية تطور الإسلام في الصين هو عملية شمولية وتوارث للثقافة الإسلامية، وهي أيضًا عملية ابتكار منطقي وشرعي للتعاليم الإسلامية من قِبَل المسلمين المحلّيين، والتي تمثل الابتكار المتأصل في النظام الثقافي الصيني.
ثالثا: الأساس الديني: تقاسم القيم، والروابط الروحية
في العالم العربي، الإسلام باعتباره النظام الثقافي المهم والجوهري في العالم العربي، فإنه يؤثر على أنماط تفكير الناس. الإسلام هو جوهر وروح الثقافة الإسلامية. والقول بأنه الجوهر يعني أنه الجزء الرئيس من الثقافة الإسلامية؛ والقول بأنه الروح يعني أنه يتغلغل في كل مجال من مجالات الثقافة الإسلامية. الإسلام لم يصبح فقط إيمان العرب بالحياة، بل أصبح أساسًا لفهم وتفسير مختلف الظواهر الاجتماعية والمعيشية، علاوة على ذلك فقد تطور إلى نظرية تكوين المجتمعات العربية وتطورها في مرحلة مبكرة، وأصبح أسلوب حياة شامل. "
الصين بلد متعدد الأعراق والأديان. ويعد الدين هو نبض النظام الثقافي، والثقافة الإسلامية جزء مهم لا غنى عنه في النظام الثقافي الصيني، فمنذ دخول الإسلام إلى الصين في السنوات الأولى من عهد أسرة تانغ الملكية، تطور الإسلام في عهد أسرة سونغ الملكية ووصل إلى ذروته في عهد أسرة يوان الملكية، وكان له تأثير كبير في المجتمع، ويقال في التاريخ: إن "أسرة يوان الحاكمة في جميع أنحاء العالم". في ذلك الوقت، كانت المكانة الاجتماعية التي يتمتع بها المسلمون أعلى من تلك التي يتمتع بها قومية هان، حيث كانت الكيان الرئيس لسكان الصين. ووصولا إلى عهد أسرة مينغ الملكية، كان تطور الإسلام في الصين مقيدًا بشكل كبير، ويرجع ذلك أساسًا إلى أن النضال ضد أسرة يوان كان قائمًا على النزعة القومية، وكان مثل هذا الجو السياسي غير مؤات بشكل خاص لتطور الإسلام، بالإضافة إلى ذلك، فقد فرضت أسرة مينغ الملكية حظرا صارما على البحار، وكانت هناك مقولة مفادها أن "شبرا واحدا من اللوح لا يسمح له بعبور البحر"، مما أضعف التبادلات بين أراضي الصين والعالم الإسلامي يوما بعد يوم. وفي عهد أسرة تشينغ الملكية، حقق الإسلام المحلي في الصين تطورًا كبيرًا مرة أخرى، فلم تتسع مساحة انتشاره فحسب، بل تم أيضًا تحسين طبيعة انتشاره، حيث "كانت درجة التغلغل في المجتمع أكثر عمقًا"، كما تشكلت أولى خطوات التعاليم الإسلامية المحلية للصين في هذه المرحلة.
يجسد المسلمون الصينيون الثقافة الصينية والثقافة الإسلامية، ويمكنهم التواصل بشكل طبيعي بين الثقافتين من الناحية العاطفية. لذلك، لا يمكن تجاهل دورهم الفريد كجسر. و"باعتبارهم حاملين للثقافة الإسلامية في الصين، فإن كيفية إمكانية المسلمين الصينيين أن يلعبوا دورًا وسيطًا في التبادلات الثقافية الصينية والاسلامية يعد أيضًا قضية مهمة." لم تتوارث الأقليات القومية التي تترأسها قومية هوي في الصين تعاليم الإسلام فقط وجعلتها منتشرة على نطاق واسع في أرض الصين، ولكن لديها أيضًا قاعدة جماهيرية ضخمة، كما طور المسلمون الصينيون الإسلام وأبدعوا فيه وفقًا لتقاليدهم وظروفهم الوطنية، مما جعله أقرب إلى نمط التفكير التقليدي للصينيين دون المساس بروح الإسلام.
وعلى هذا، فقد أصبح النظام الديني الذي يتزعمه الإسلام نقطة البداية والضمان لتحقيق "ترابط المشاعر الشعبية" بين الصين والدول العربية وحتى العالم الإسلامي بأسره. من هذا المنظور، فإن الأقلية المسلمة بزعامة قومية هوي ستصبح "حامل لواء" و"طليعة" أسلوب الاتصال هذا. وبالمقارنة مع مواطني قومية هان، فإن المواطنين المسلمين في الصين يشتركون في نفس الانتماء الديني والحفاظ على المعتقد مع العالم الإسلامي، ويبدو أن هناك رابطًا إضافيًا يربط بشكل وثيق بين الشعبين الصيني والعربي.
يعتقد ليو تشي، الباحث في قومية هوي في عهد أسرة تشينغ، أن: "تعاليم الحكماء القديمة والحديث متماثلة، وأن الكتب السماوية متفقة مع تعاليم كونفوشيوس ومانسيوس، حيث هناك العديد من أوجه التشابه بينهما، فـ "فكر السلام والتسامح الذي دعا إليه القرآن الكريم هو نفس الفكر لدى تعاليم "الكونفوشيوسية". يشير مصطلح "المروءة" في النظام الثقافي الصيني إلى المساواة واحترام الناس، والسعي وراء الشخصية المثالية؛ وفي النظام الإسلامي، يحظى مفهوم "المساواة" باهتمام خاص، مع التأكيد على أن جميع المسلمين يتمتعون بالمساواة المطلقة أمام الله عز وجل، وفي الوقت نفسه، يدعو الإسلام أيضًا إلى أن يتخذ الناس الأخلاق الرائعة التي أظهرها النبي محمد صلى الله عليه وسلم في السّنّة لتكون موضع اقتداء المسلمين به في أفكارهم وأقوالهم وأفعالهم. كما منح القرآن الكريم للنبي محمد السلطة المطلقة، مما جعله رمزًا للشخصية المثالية للمسلمين، ومما جاء في آيات القرآن الكريم كقول الله تعالى: " فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ "(سورة الأعراف: الآية رقم158). إن القواسم المشتركة بين الكونفوشيوسية والإسلام في نظام القيم يسهل على الجانبين فهم جوهر وروح ثقافة الآخر في عملية الحوار بين الحضارات، ومنحهما موقفًا للإقرار.
إن الأسس التاريخية والثقافية والدينية لـ "ترابط المشاعر الشعبية" بين الصين والعالم العربي تجعل مبادرة "الحزام والطريق" ليست "خطة وهمية"، ولكنها دعوة العصر لتلبي المصالح الأساسية للشعبين. على طريق "ترابط المشاعر الشعبية "، اتخذ أسلافنا خطوات حازمة وقدموا لنا مثالاً يحتذى به. وعلى خلفية الوضع الدولي المعاصر المعقد، على الصين والدول العربية تلخيص وتوريث حكمة أسلافهم، واستخدام السياسات والمنشآت والاقتصاد والتجارة كوسائل وحاملات؛ لتحقيق التفاهم المتبادل لعواطف الشعبين بشكل تام ونهائي، وخلق "عالم منسجم" ينتمي إلى الأمة الشرقية