أوهام بشرية
د . حسين على
تزدحم رأس الإنسان بكثير من الأوهام الزائفة، والأفكار الخاطئة والاعتقادات الباطلة، حتى إن المرء قد يقضى عمره كله أسير هذه الأوهام، يسلك وفقًا لها سبلًا شتى، ويتخذ مواقفًا حازمة وصارمة استنادًا إليها. وإذا حاولنا أن نعدد هذه الأوهام ونحصرها، فسنجدها تفوق الحصر، لذلك سوف نتناول فى سلسلة من المقالات بعض هذه الأوهام التى تحتل رؤوسنا وتضلل عقولنا.
على الأرجح أنك عندما تهم بالخروج إلى الشارع تاركًا منزلك، متجهًا إلى عملك أو جامعتك، فإنك لا تنسى أن تقف أمام المرآة لتلقى نظرة على مظهرك العام. وحين تتطلع إلى المرآة تشاهد صورتك منعكسة على سطحها، فتُعَدِّل من هيئتك إذا وجدت اضطرابًا أو خللًا فى موضع من مواضع جسمك أو ملبسك. المهم فى الأمر أنك دومًا تجد صورتك أمام ناظريك، وتتوهم أن هذه الصورة هى ذات الصورة المرتسمة فى ذهن كل مَنْ يتعامل معك!! وهذا وهم كبير، نقع فيه جميعًا.. كلنا يظن أن ملامح وجهه المرسومة فى ذهنه هى ذاتها المرسومة فى أذهان الناس الذين يتعامل معهم. وهذا غير صحيح على الإطلاق؛ لأن صورتك، أى صورة ملامح وجهك، تتعدد بتعدد من تختلط بهم من البشر. صورتك ليست واحدة عند كل الناس. إننى لا أقصد انطباع الناس عن أخلاقك وسلوكياتك فحسب، وإنما أقصد بالتحديد تصور الآخرين لملامح وجهك، تصورهم للبروفايل profile الخاص بك، إنه يختلف باختلاف الأشخاص سواء أقارب أو أصدقاء أو زملاء. كلنا نتوهم أن صورتنا التى نراها منعكسة على سطح المرآة هى ذات الصورة التى يرسمها لنا الناس. الواقع يقول شيئًا مختلفًا عن ذلك، لأن هناك من يراك وسيمًا، وهناك من يراك قبيحًا، وهناك من يرى ملامحك لا هى وسيمة أو قبيحة، وإنما عادية مألوفة.
تخيل معى أن الله سبحانه وتعالى منح البشر - كل البشر - القدرة على رسم وجوه الآخرين وملامحهم. وطلبت أنت من كل الناس الذين يتعاملون معك صغيرهم وكبيرهم أن يرسموا صورة لك، وقمت بتجميع هذه الصور ووضعتها أمامك على منضدة، وبدأت فى فحصها، ستلاحظ من خلال فحصك للصور التى رُسِمَت لك أمرين:
الأمر الأول: أنه لا توجد من بين تلك الصور صورتان متماثلتان ومتطابقتان تمامًا، رغم أنهما مرسومتان لشخص واحد هو أنت!!
اقرأ أيضاً
- اغتيال العقل
- الكراكيب
- طلاب الثانوية العامة بالبحر الأحمر بعد امتحان الفلسفة : اخدنا العديه وفرحانين
- اليوم .. طلاب الصف الثاني الثانوي يؤدون امتحانات الأحياء والفلسفة
- اكبر استاذ للفلسفة بالولايات المتحدة يشيد بدور هدى درويش في نشر التسامح
- الألوان والطاقة الإيجابية
- اليوم .. بدء الامتحان الإلكتروني في الفلسفة والفيزياء لطلاب أولى ثانوي
- رئيس حزب ”المصريين”: السيسي يؤسس لفلسفة جديدة للصناعة الوطنية
- شاكر عبد الحميد وسعيد توفيق في مناقشة كتاب عن هربرت ماركيوز
- مابين موجود آخر واليوم الآخر
- هل تنجح فلسفة كلوب للمرة الثانية بعدم التعاقد مع لاعبين خلال موسم الانتقالات
- اليوم.. طلاب الثانوية العامة دور ثان يؤدون امتحان الأحياء والفلسفة والاستاتيكا
الأمر الثاني: أنه لا توجد من بين هذه الصور الكثيرة واحدة تتماثل وتتطابق مع الصورة التى ترسمها أنت لنفسك!!
إن علاقتنا بالآخرين تحدد ملامحنا فى أذهانهم، إن من يكرهنا يرسم صورة ذهنية عنا مختلفة عن تلك التى يرسمها من يحبنا. فإذا تصورنا فتاة جميلة من أسرة عريقة (طالبة جامعية أو معيدة فى إحدى الكليات مثلًا) حدث أن رأت – مصادفةً – شابًا وسيمًا وأنيقًا ورقيقًا، يعمل معيدًا أو مدرسًا بالجامعة، أعجبت الفتاة بهذا الشاب وخفق قلبها له، وتمنت الاقتران به. وتصادف أن أبواب السماء كانت مفتوحة وتحققت أمنيتها، وتقدم ذلك الشاب طالبًا يدها. وتم الزواج والفرحة تغمر قلب الفتاة التى أصبحت زوجة لذلك الشاب الوسيم الأنيق الرقيق، الذى ما أن وقعت عين تلك الفتاة عليه حتى هامت به حبًا وعشقًا.. ماذا حدث بعد الزواج.. اكتشفت المسكينة أن زوجها أفّاق وكاذب ومخادع، يُظْهر غير ما يبطن، يعاملها أسوأ معاملة، وإن كل وسامته وأناقته وتهذيبه ما هى إلا مظاهر للإيقاع بالجنس اللطيف، تلك الصفات التى بهرتها ما هى إلا «طُعم» أو «شَرك» لاصطياد بنات الناس.
هنا نجد الفتاة - التى كانت ترى فتاها فى بداية تعرفها عليه غاية فى الوسامة والأناقة والتهذيب - تردد عبارة واحدة لا تحيد عنها: «إننى لا أطيق رؤية وجهه»، هكذا صار الجمال قبحًا، نتيجة للمواقف المتخاذلة والسلوك الوضيع.
مرة أخرى نقول: «وهمٌ أن تعتقد أن صورتك التى ترسمها لنفسك وتراها منعكسة أمامك فى المرآة، هى ذات الصورة التى يرسمها الناس لك».
ومن الوهم أيضًا أن تظن أن الصورة التى ترسمها فى ذهنك عن الآخرين تعبر عن واقعهم الحقيقي، فكم خدعتنا صور مشرقة رسمناها لأناس هم، فى حقيقة الأمر، حقراء مخادعون، وظللنا طويلًا نتوهم أنهم أحبة وأصدقاء مخلصون. وكم ظلمنا أناسًا، ارتسمت فى أذهاننا عنهم صورة قبيحة شوهاء اعتمادًا على قسمات وجوههم غير المتناسقة، ثم أدركنا مؤخرًا - من خلال تجربتنا معهم التى كشفت عن رقيهم وأصالة معدنهم - إننا ظلمناهم ظلمًا بيّنًا، وأنهم يتحلون بقدر من الوسامة لا يستهان به.*
أستاذ فلسفة العلوم والمنطق